شيركوه
08-28-2006, 06:20 PM
الحرب بالوكالة ومشاريع ملء الفراغ في العالم العربي
تقارير رئيسية :عام :الخميس 23رجب 1427هـ – 17 أغسطس 2006م
عامر حسين
مفكرة الإسلام: الحرب التي وضعت أوزارها بين الكيان الصهيوني والدولة اللبنانية لم تخضها أطرافها بشكل أصيل تعبيراً عن أنفسهم، وإنما خاضتها أطرافها بالوكالة عن أطراف أخرى خارجية. فالكيان الصهيوني خاض هذه الحرب بالوكالة عن الولايات المتحدة وبأهداف أمريكية وأسلحة أمريكية وغطاء سياسي أمريكي.
وحزب الله خاض هذه الحرب بأجندة إيرانية ووفق أهداف إيران ومصلحتها الإستراتيجية، وبأسلحة إيرانية، وبغطاء سياسي إيراني.
وهذه الحرب بالوكالة هي امتهان كامل للعالم العربي، وإعلان بأن العرب أصبحوا غير قادرين عن خوض حروبهم بأنفسهم، وأصبحوا غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، مما جعل الأمر يتطلب استدعاء أطراف أخرى لتقوم بذات الدور الذي فشل العرب فرادى ومجتمعين في القيام به.
حالة الضعف هذه التي يعيشها العالم العربي لا تخفى على أحد، وكانت أبرز تجلياتها في الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق وإسقاط بغداد عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة الحضارة الإسلامية، وهي ليست وليدة اللحظة الراهنة ولا هي من تجليات حرب الخليج الثانية وحصار العراق وكذلك حصار ليبيا والسودان وسوريا، إنما هذه الحالة موجودة منذ انهيار الخلافة العثمانية التي ظلت تملأ هذا الفراغ وتدافع عن العالم العربي والإسلامي لفترة زادت عن الخمسة قرون ضد الاستعمار الأوروبي، في بداية مرحلة الضعف هذه ومع الحرب العالمية الأولى ظهر وعد بلفور والنوايا الصهيونية الخبيثة في فلسطين ثم جاء عصر الانتداب وكان معه وقبله الاحتلال البريطاني الفرنسي للدول العربية.
وهكذا انكشف الوطن العربي استراتيجيًا أمام القوى الدولية ذات النفوذ بدءً من العهد الاستعماري وحتى الآن.
وحتى بعد أن حصلت الدول العربية على استقلالها فقد ظل هذا الفراغ موجودًا، وتمثل في الاستقطاب الأمريكي لبعض الدول العربية والاستقطاب السوفيتي لبعضها الآخر حتى جاءت قارعة أحد 11 سبتمبر 2001 لتتحول أمريكا من التدخل غير المباشر في المنطقة إلى التدخل المباشر والكامل وممارستها العدوان العسكري وإزالة نظام سياسي عربي مستقر.
إن عددًا من المحللين العرب يرجع هذه الحالة إلى الكساح الاقتصادي والسياسي والأمني الذي يعيشه العرب والذي جعلهم مطمعًا لقوى النفوذ الدولي.
فحالة التخلف السياسي العربي وعدم وجود نظام ديمقراطي أدى إلى تكوين حالة خاصة من الاغتراب السياسي نتيجة للتسلط والدكتاتورية التي مارستها الدولة في عالمنا العربي لعقود طويلة.
حلف بغداد وبواكير الأطماع الأمريكية
وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية التدخل في المنطقة في خمسينات القرن الماضي بعد حرب السويس بإطلاق الرئيس الأمريكي أيزنهاور إستراتيجية 'ملء الفراغ' مرة تحت عنوان 'حلف الدفاع عن الشرق الأوسط' ومرة أخرى تحت عنوان 'حلف بغداد'، ولكن هذه المحاولات فشلت في ظل وجود الاتحاد السوفيتي وفي ظل الممانعات العربية القوية التي كانت موجودة في هذه الفترة.
ففي عام 1955 تم تأسيس حلف بغداد على يد بريطانيا، وضم إلى جانب بريطانيا [الدولة المستعمرة للعراق] العراق وتركيا وباكستان، ويهدف هذا الحلف الذي لعب الأمريكيون دوراً كبيراً في تأسيسه في الكواليس إلى تقوية الدفاع الإقليمي والحيلولة دون تغلغل الاتحاد السوفيتي إلى منطقة الشرق الأوسط. وقد رفضت كل من سوريا ولبنان والأردن ومصر الانضمام إلى هذا الحلف الذي اصطدم بمعارضة شعبية عربية قوية، وقد مثل هذا الرفض العربي فشلاً ذريعاً للولايات المتحدة الأمريكية حيث أعطى قوة أكبر للحركة القومية العربية لمجابهة القوى الاستعمارية ومخططاتها في المنطقة، وقد غادر هذا الحلف بغداد بعد أن تولى عبد الكريم قاسم مقاليد الحكم في العراق عام 1959م الذي قرر الانضمام إلى صف سوريا ومصر ولبنان فيما يتعلق بموقفهم من الصراع مع الكيان الصهيوني. وهكذا مات هذا الحلف المشبوه وفشل في تحقيق أهدافه، وفشلت السياسة الأمريكية في أولى خطواتها للسيطرة على العالم العربي.
أمريكا ومحاولة تعميم النموذج التركي
وعلى الصعيد الإقليمي نشطت تركيا وطرحت مشروعاتها ذات الطابع الاقتصادي وتحالفت استراتيجيًا مع إسرائيل.
واللافت هنا أن الولايات المتحدة حينما أطلقت 'مبادرة الشرق الأوسط الكبير' اعتبرت تركيا إحدى الدول القائدة في المنطقة، واعتبرت أن نظامها الإسلامي الحاكم الآن عبر حزب العدالة والتنمية هو نموذج مثالي يجب أن يسود العالم العربي والإسلامي. وخططت واشنطن لكي يخرج من تركيا عشرات ومئات الدعاة والوعاظ ليدعوا إلى النموذج الإسلامي التركي ومزاياه، وأن يساهموا في محو الأفكار المتطرفة السائدة في الذهنية العربية والإسلامية، ويستبدلوها بأفكار تركيةٍ متصالحةٍ مع العلمانية.
وغير خاف أن واشنطن كانت دائما داعمة ومؤيدة لوجود تركيا في حلف شمال الأطلنطي؛ كي تعمل كعازلٍ بين الاتحاد السوفييتي [سابقاً] وبين أوروبا والخليج العربي في عهد الحرب الباردة.
ونظرت واشنطن بعد ذلك لأنقرة على أنها يمكن أن تلعب دور الموصل داخل الاتحاد الأوروبي للمصالح الأمريكية. والولايات المتحدة تعلن في كثيرٍ من المناسبات أنها تؤيد انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي؛ لأنها تعتبر النموذج الإسلامي في تركيا الأفضل والأمثل في العالم الإسلامي، وترغب في تقوية ودفع هذا النموذج العلماني لكي يهيمن على المنطقة والعالم العربي والعالم الإسلامي.
الولايات المتحدة تريد أن يمارس المسلمون دينهم، وأن يذهبوا إلى مساجدهم ويعبدوا الله بشرطٍ واحدٍ: هو الفصل بين الدين والدولة، وهو النمط القائم في الولايات المتحدة نفسها، ولكنه غير قائم في العالم الإسلامي سوى في تركيا، وواشنطن ترى أنه لو نجحت التجربة الإسلامية التركية، وانتشرت في العالم الإسلامي؛ فإن مستقبل الأحزاب الإسلامية سوف يصبح كمستقبل الأحزاب المسيحية في ألمانيا ودول أوربية أخرى؛ فهذه الأحزاب بدأت كأحزابٍ دينيةٍ، وانتهى بها الأمر إلى أن أصبحت أحزابًا معتدلةً لا يكاد الدين يصيغ توجهاتِها.
كما ترغب واشنطن أن تكون تركيا غطاءً لإسرائيل ليقوم الطرفان بقيادة التغيير في العالم العربي والإسلامي؛ حتى تختفي الحساسية ضد الصهاينة لو دخلوا هذا المعترك وحدَهم.
مشاريع أمريكية مشبوهة
كما شهدت المنطقة العربية دعوات لما يسمى 'مشروع نظام البحر المتوسط'، فظهرت توجهات فكرية وسياسية وثقافية لتوثيق العلاقات بين جانبي البحر المتوسط تجسدت في 'مؤتمر الأمن والتضامن في البحر المتوسط' واقترح الاتحاد الأوروبي عقد الاجتماع التمهيدي له عام 1995 ويشمل منطقة تجارة حرة لأربعين دولة ويعالج شؤون الأمن المتبادل والهجرة إلى أوروبا والإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وينظم شؤون التجارة ومشاريع النفط والغاز، ويدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويختص بشؤون الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وينتظم ذلك كله في ميثاق ومؤسسات.
ولكن يواجه هذا المشروع مشكلات كثيرة مثل: تحديد إطاره الجغرافي؛ فهناك دعوات لأن يضم دول المغرب العربي الخمسة فقط بالإضافة إلى البرتغال وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ومالطا، وهناك دعوات لإطار أوسع ودعوات لنظام أكثر سعة مما أدى لإرباك الدعوة وعدم نجاحها.
وهناك مشروع الشرق الأوسط الذي تم تطويره إلى 'الشرق الأوسط الكبير'، ثم إلى 'الشرق الأوسط الجديد'، وهو المشروع الذي يعد له الفكر الصهيوني منذ إنشاء دولة إسرائيل في الأربعينيات، ويعد شيمون بيريز أبرز منظريه والمشرفين عليه في الوقت الراهن.
وترى أمريكا وإسرائيل أن جميع الظروف مهيأة الآن لانطلاق هذا المشروع والذي تكون فيه إسرائيل هي القائدة حيث سيعتمد على التكنولوجيا الصهيونية والأيدي العاملة والسوق العربية ورغم أن هناك إلحاحًا أمريكيًّا لتمرير هذا المشروع إلا أن الوجود الإسرائيلي سيفسده والأمة تواجهه بكل عنف وخاصة على مستوى الفصائل الإسلامية، ولن ينجح إلا مشروع ينبت من داخل العالم العربي تقوده مصر والسعودية وسوريا ويحظى بإجماع الدول العربية أو غالبيتها ليعالج ويصحح مكامن الضعف في النظام الحالي.
المخاوف من المشروع الإيراني مبررة
الضعف العربي أعطى نفوذًا للدولة الإيرانية في المنطقة بشكل كبير، فإيران بما تقدمه لحزب لله من دعم أوجدت لها دورًا في المنطقة العربية حيث أصبح الكلام الآن أن حزب الله هو امتداد طبيعي لإيران. وما حدث في الجنوب اللبناني من انتكاسة 'إسرائيلية' مؤخراً سيعطي إيران دفعة معنوية وإستراتيجية على المستوى العربي والإقليمي. وإذا شنت واشنطن حربًا ضد إيران فإن الخاسر الوحيد في هذه الحرب هي الدول العربية التي ستصطلي بتفوق أحد المشروعين، إما المشروع الأمريكي ـ الصهيوني أو مشروع النفوذ الإيراني في المنطقة.
إننا نستطيع أن نؤكد وجود مشروع إيراني فارسي إقليمي لا يمكن إغفاله، استطاع جرّ أمريكا ومساعدتها إلى ساحتي أفغانستان والعراق، ونجح في وضع الجيش الأمريكي بين فكي الكماشة في العراق، ثم استغل هذا الوضع وحرك أوراق ملفاته، ومنها ملفه النووي، ونجح أيضاً في استقطاب محاور أخرى للاصطفاف معه عربياً، مثلما أمكنه صياغة علاقات إستراتيجية مع سوريا، واللعب بحرية تامة في الميدان العراقي مستفيداً من حالة التشرذم العربية وحالة الفراغ، كما استطاع توظيف ورقة حزب الله ووضعه في خاصرة إسرائيل ليستطيع بها ملاعبة الأمريكان والضغط عليهم في الملفات الأخرى.
وهكذا فإن المشروع الإيراني لملء الفراغ العربي موجود، والذي ينكر ذلك إنسان غير موضوعي ولا يرى الواقع. وركائز هذا المشروع هي التحالف الاستراتيجي مع سوريا وحزب الله، وتطوير هذا التحالف ليشمل منظمات المقاومة الإسلامية في فلسطين، ناهيك عن ركيزة أساسية وهي اختراق العراق تماماً والسعي لفصل الجنوب عن الشمال والوسط، ثم بعد ذلك يتم اللعب بورقة الأقليات الشيعية في الخليج.
المحاولة العربية الوحيدة فشلت
بعد حرب الخليج الثانية ظهر 'إعلان دمشق' الذي تنادت فيه دول مجلس التعاون الخليجي الست بالإضافة إلى مصر وسوريا إلى الاجتماع في دمشق، وانتهى الاجتماع بإصدار 'إعلان دمشق' الذي أعلن بناء نظام عربي جديد، ولكن هذه الصيغة لم تستطع الصمود أمام تطورات الوضع في المنطقة.
إعلان دمشق كان آخر محاولة من جانب الأمة لملء هذا الفراغ العربي, أو علي الأقل المشاركة في ملء هذا الفراغ، وجعل مهمة حفظ التوازن الاستراتيجي في المنطقة, خاصة في الخليج، مهمة ومسئولية عربية قومية, بعد أن أظهرت كل من مصر وسوريا الإرادة والقدرة علي أداء ذلك الدور بالمشاركة الكبيرة في حرب تحرير الكويت عسكريا وسياسيا.
ونحن نتذكر اليوم إعلان دمشق لأن فشل هذه المحاولة هو الذي أدي إلى ظهور البديل الحالي, الذي لا يستسيغه كثيرون, والذي يحمله الكثيرون أيضا في المنطقة وفي العالم مسئولية الاضطرابات في العراق ولبنان وفلسطين, والمقصود طبعا هو التحالف الاستراتيجي بين كل من إيران وسوريا وحزب الله.
لقد قال دبلوماسي مصري كبير في أعقاب فشل إعلان دمشق: إن من قتلوا الإعلان سيندمون أشد الندم ولكن بعد أن يكون الأوان قد فات, فسوريا لن تجد أمامها سوي التحالف مع إيران, أما مصر فلن تضيع وقتها في الاعتماد علي غيرها فيما يختص بأمنها القومي, ولن تكون قادرة علي مساعدة الآخرين ماداموا لا يريدون مساعدة أنفسهم أولا.
والذين أفشلوا إعلان دمشق ليسوا فقط الشركاء المباشرين, ولكن الولايات المتحدة لعبت دورا أساسيا في إجهاض هذه المحاولة العربية لملء الفراغ الاستراتيجي, حتى تحتكر لنفسها مسئولية الأمن في الخليج, وحتى لا يتطور ذلك التكتل الاستراتيجي العربي الذي كان يؤسس له إعلان دمشق ليكون مدخلا لتوازن استراتيجي يؤثر علي بقية القضايا والخطط في الإقليم ككل, وهنا التقت المصلحة الأمريكية مع المصلحة الإسرائيلية الدائمة والمتمثلة في مقاومة أية تحالفات إستراتيجية عربية ـ عربية حتى ولم تكن مواجهة إسرائيل من بين أولوياتها, بما أن أي تحسن في الأوضاع الإستراتيجية العربية سيؤثر علي مجريات الصراع العربي ـ الإسرائيلي وطرق إدارته وأساليب تسويته لصالح الأطراف العربية.
تقارير رئيسية :عام :الخميس 23رجب 1427هـ – 17 أغسطس 2006م
عامر حسين
مفكرة الإسلام: الحرب التي وضعت أوزارها بين الكيان الصهيوني والدولة اللبنانية لم تخضها أطرافها بشكل أصيل تعبيراً عن أنفسهم، وإنما خاضتها أطرافها بالوكالة عن أطراف أخرى خارجية. فالكيان الصهيوني خاض هذه الحرب بالوكالة عن الولايات المتحدة وبأهداف أمريكية وأسلحة أمريكية وغطاء سياسي أمريكي.
وحزب الله خاض هذه الحرب بأجندة إيرانية ووفق أهداف إيران ومصلحتها الإستراتيجية، وبأسلحة إيرانية، وبغطاء سياسي إيراني.
وهذه الحرب بالوكالة هي امتهان كامل للعالم العربي، وإعلان بأن العرب أصبحوا غير قادرين عن خوض حروبهم بأنفسهم، وأصبحوا غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، مما جعل الأمر يتطلب استدعاء أطراف أخرى لتقوم بذات الدور الذي فشل العرب فرادى ومجتمعين في القيام به.
حالة الضعف هذه التي يعيشها العالم العربي لا تخفى على أحد، وكانت أبرز تجلياتها في الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق وإسقاط بغداد عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة الحضارة الإسلامية، وهي ليست وليدة اللحظة الراهنة ولا هي من تجليات حرب الخليج الثانية وحصار العراق وكذلك حصار ليبيا والسودان وسوريا، إنما هذه الحالة موجودة منذ انهيار الخلافة العثمانية التي ظلت تملأ هذا الفراغ وتدافع عن العالم العربي والإسلامي لفترة زادت عن الخمسة قرون ضد الاستعمار الأوروبي، في بداية مرحلة الضعف هذه ومع الحرب العالمية الأولى ظهر وعد بلفور والنوايا الصهيونية الخبيثة في فلسطين ثم جاء عصر الانتداب وكان معه وقبله الاحتلال البريطاني الفرنسي للدول العربية.
وهكذا انكشف الوطن العربي استراتيجيًا أمام القوى الدولية ذات النفوذ بدءً من العهد الاستعماري وحتى الآن.
وحتى بعد أن حصلت الدول العربية على استقلالها فقد ظل هذا الفراغ موجودًا، وتمثل في الاستقطاب الأمريكي لبعض الدول العربية والاستقطاب السوفيتي لبعضها الآخر حتى جاءت قارعة أحد 11 سبتمبر 2001 لتتحول أمريكا من التدخل غير المباشر في المنطقة إلى التدخل المباشر والكامل وممارستها العدوان العسكري وإزالة نظام سياسي عربي مستقر.
إن عددًا من المحللين العرب يرجع هذه الحالة إلى الكساح الاقتصادي والسياسي والأمني الذي يعيشه العرب والذي جعلهم مطمعًا لقوى النفوذ الدولي.
فحالة التخلف السياسي العربي وعدم وجود نظام ديمقراطي أدى إلى تكوين حالة خاصة من الاغتراب السياسي نتيجة للتسلط والدكتاتورية التي مارستها الدولة في عالمنا العربي لعقود طويلة.
حلف بغداد وبواكير الأطماع الأمريكية
وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية التدخل في المنطقة في خمسينات القرن الماضي بعد حرب السويس بإطلاق الرئيس الأمريكي أيزنهاور إستراتيجية 'ملء الفراغ' مرة تحت عنوان 'حلف الدفاع عن الشرق الأوسط' ومرة أخرى تحت عنوان 'حلف بغداد'، ولكن هذه المحاولات فشلت في ظل وجود الاتحاد السوفيتي وفي ظل الممانعات العربية القوية التي كانت موجودة في هذه الفترة.
ففي عام 1955 تم تأسيس حلف بغداد على يد بريطانيا، وضم إلى جانب بريطانيا [الدولة المستعمرة للعراق] العراق وتركيا وباكستان، ويهدف هذا الحلف الذي لعب الأمريكيون دوراً كبيراً في تأسيسه في الكواليس إلى تقوية الدفاع الإقليمي والحيلولة دون تغلغل الاتحاد السوفيتي إلى منطقة الشرق الأوسط. وقد رفضت كل من سوريا ولبنان والأردن ومصر الانضمام إلى هذا الحلف الذي اصطدم بمعارضة شعبية عربية قوية، وقد مثل هذا الرفض العربي فشلاً ذريعاً للولايات المتحدة الأمريكية حيث أعطى قوة أكبر للحركة القومية العربية لمجابهة القوى الاستعمارية ومخططاتها في المنطقة، وقد غادر هذا الحلف بغداد بعد أن تولى عبد الكريم قاسم مقاليد الحكم في العراق عام 1959م الذي قرر الانضمام إلى صف سوريا ومصر ولبنان فيما يتعلق بموقفهم من الصراع مع الكيان الصهيوني. وهكذا مات هذا الحلف المشبوه وفشل في تحقيق أهدافه، وفشلت السياسة الأمريكية في أولى خطواتها للسيطرة على العالم العربي.
أمريكا ومحاولة تعميم النموذج التركي
وعلى الصعيد الإقليمي نشطت تركيا وطرحت مشروعاتها ذات الطابع الاقتصادي وتحالفت استراتيجيًا مع إسرائيل.
واللافت هنا أن الولايات المتحدة حينما أطلقت 'مبادرة الشرق الأوسط الكبير' اعتبرت تركيا إحدى الدول القائدة في المنطقة، واعتبرت أن نظامها الإسلامي الحاكم الآن عبر حزب العدالة والتنمية هو نموذج مثالي يجب أن يسود العالم العربي والإسلامي. وخططت واشنطن لكي يخرج من تركيا عشرات ومئات الدعاة والوعاظ ليدعوا إلى النموذج الإسلامي التركي ومزاياه، وأن يساهموا في محو الأفكار المتطرفة السائدة في الذهنية العربية والإسلامية، ويستبدلوها بأفكار تركيةٍ متصالحةٍ مع العلمانية.
وغير خاف أن واشنطن كانت دائما داعمة ومؤيدة لوجود تركيا في حلف شمال الأطلنطي؛ كي تعمل كعازلٍ بين الاتحاد السوفييتي [سابقاً] وبين أوروبا والخليج العربي في عهد الحرب الباردة.
ونظرت واشنطن بعد ذلك لأنقرة على أنها يمكن أن تلعب دور الموصل داخل الاتحاد الأوروبي للمصالح الأمريكية. والولايات المتحدة تعلن في كثيرٍ من المناسبات أنها تؤيد انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي؛ لأنها تعتبر النموذج الإسلامي في تركيا الأفضل والأمثل في العالم الإسلامي، وترغب في تقوية ودفع هذا النموذج العلماني لكي يهيمن على المنطقة والعالم العربي والعالم الإسلامي.
الولايات المتحدة تريد أن يمارس المسلمون دينهم، وأن يذهبوا إلى مساجدهم ويعبدوا الله بشرطٍ واحدٍ: هو الفصل بين الدين والدولة، وهو النمط القائم في الولايات المتحدة نفسها، ولكنه غير قائم في العالم الإسلامي سوى في تركيا، وواشنطن ترى أنه لو نجحت التجربة الإسلامية التركية، وانتشرت في العالم الإسلامي؛ فإن مستقبل الأحزاب الإسلامية سوف يصبح كمستقبل الأحزاب المسيحية في ألمانيا ودول أوربية أخرى؛ فهذه الأحزاب بدأت كأحزابٍ دينيةٍ، وانتهى بها الأمر إلى أن أصبحت أحزابًا معتدلةً لا يكاد الدين يصيغ توجهاتِها.
كما ترغب واشنطن أن تكون تركيا غطاءً لإسرائيل ليقوم الطرفان بقيادة التغيير في العالم العربي والإسلامي؛ حتى تختفي الحساسية ضد الصهاينة لو دخلوا هذا المعترك وحدَهم.
مشاريع أمريكية مشبوهة
كما شهدت المنطقة العربية دعوات لما يسمى 'مشروع نظام البحر المتوسط'، فظهرت توجهات فكرية وسياسية وثقافية لتوثيق العلاقات بين جانبي البحر المتوسط تجسدت في 'مؤتمر الأمن والتضامن في البحر المتوسط' واقترح الاتحاد الأوروبي عقد الاجتماع التمهيدي له عام 1995 ويشمل منطقة تجارة حرة لأربعين دولة ويعالج شؤون الأمن المتبادل والهجرة إلى أوروبا والإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وينظم شؤون التجارة ومشاريع النفط والغاز، ويدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويختص بشؤون الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وينتظم ذلك كله في ميثاق ومؤسسات.
ولكن يواجه هذا المشروع مشكلات كثيرة مثل: تحديد إطاره الجغرافي؛ فهناك دعوات لأن يضم دول المغرب العربي الخمسة فقط بالإضافة إلى البرتغال وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ومالطا، وهناك دعوات لإطار أوسع ودعوات لنظام أكثر سعة مما أدى لإرباك الدعوة وعدم نجاحها.
وهناك مشروع الشرق الأوسط الذي تم تطويره إلى 'الشرق الأوسط الكبير'، ثم إلى 'الشرق الأوسط الجديد'، وهو المشروع الذي يعد له الفكر الصهيوني منذ إنشاء دولة إسرائيل في الأربعينيات، ويعد شيمون بيريز أبرز منظريه والمشرفين عليه في الوقت الراهن.
وترى أمريكا وإسرائيل أن جميع الظروف مهيأة الآن لانطلاق هذا المشروع والذي تكون فيه إسرائيل هي القائدة حيث سيعتمد على التكنولوجيا الصهيونية والأيدي العاملة والسوق العربية ورغم أن هناك إلحاحًا أمريكيًّا لتمرير هذا المشروع إلا أن الوجود الإسرائيلي سيفسده والأمة تواجهه بكل عنف وخاصة على مستوى الفصائل الإسلامية، ولن ينجح إلا مشروع ينبت من داخل العالم العربي تقوده مصر والسعودية وسوريا ويحظى بإجماع الدول العربية أو غالبيتها ليعالج ويصحح مكامن الضعف في النظام الحالي.
المخاوف من المشروع الإيراني مبررة
الضعف العربي أعطى نفوذًا للدولة الإيرانية في المنطقة بشكل كبير، فإيران بما تقدمه لحزب لله من دعم أوجدت لها دورًا في المنطقة العربية حيث أصبح الكلام الآن أن حزب الله هو امتداد طبيعي لإيران. وما حدث في الجنوب اللبناني من انتكاسة 'إسرائيلية' مؤخراً سيعطي إيران دفعة معنوية وإستراتيجية على المستوى العربي والإقليمي. وإذا شنت واشنطن حربًا ضد إيران فإن الخاسر الوحيد في هذه الحرب هي الدول العربية التي ستصطلي بتفوق أحد المشروعين، إما المشروع الأمريكي ـ الصهيوني أو مشروع النفوذ الإيراني في المنطقة.
إننا نستطيع أن نؤكد وجود مشروع إيراني فارسي إقليمي لا يمكن إغفاله، استطاع جرّ أمريكا ومساعدتها إلى ساحتي أفغانستان والعراق، ونجح في وضع الجيش الأمريكي بين فكي الكماشة في العراق، ثم استغل هذا الوضع وحرك أوراق ملفاته، ومنها ملفه النووي، ونجح أيضاً في استقطاب محاور أخرى للاصطفاف معه عربياً، مثلما أمكنه صياغة علاقات إستراتيجية مع سوريا، واللعب بحرية تامة في الميدان العراقي مستفيداً من حالة التشرذم العربية وحالة الفراغ، كما استطاع توظيف ورقة حزب الله ووضعه في خاصرة إسرائيل ليستطيع بها ملاعبة الأمريكان والضغط عليهم في الملفات الأخرى.
وهكذا فإن المشروع الإيراني لملء الفراغ العربي موجود، والذي ينكر ذلك إنسان غير موضوعي ولا يرى الواقع. وركائز هذا المشروع هي التحالف الاستراتيجي مع سوريا وحزب الله، وتطوير هذا التحالف ليشمل منظمات المقاومة الإسلامية في فلسطين، ناهيك عن ركيزة أساسية وهي اختراق العراق تماماً والسعي لفصل الجنوب عن الشمال والوسط، ثم بعد ذلك يتم اللعب بورقة الأقليات الشيعية في الخليج.
المحاولة العربية الوحيدة فشلت
بعد حرب الخليج الثانية ظهر 'إعلان دمشق' الذي تنادت فيه دول مجلس التعاون الخليجي الست بالإضافة إلى مصر وسوريا إلى الاجتماع في دمشق، وانتهى الاجتماع بإصدار 'إعلان دمشق' الذي أعلن بناء نظام عربي جديد، ولكن هذه الصيغة لم تستطع الصمود أمام تطورات الوضع في المنطقة.
إعلان دمشق كان آخر محاولة من جانب الأمة لملء هذا الفراغ العربي, أو علي الأقل المشاركة في ملء هذا الفراغ، وجعل مهمة حفظ التوازن الاستراتيجي في المنطقة, خاصة في الخليج، مهمة ومسئولية عربية قومية, بعد أن أظهرت كل من مصر وسوريا الإرادة والقدرة علي أداء ذلك الدور بالمشاركة الكبيرة في حرب تحرير الكويت عسكريا وسياسيا.
ونحن نتذكر اليوم إعلان دمشق لأن فشل هذه المحاولة هو الذي أدي إلى ظهور البديل الحالي, الذي لا يستسيغه كثيرون, والذي يحمله الكثيرون أيضا في المنطقة وفي العالم مسئولية الاضطرابات في العراق ولبنان وفلسطين, والمقصود طبعا هو التحالف الاستراتيجي بين كل من إيران وسوريا وحزب الله.
لقد قال دبلوماسي مصري كبير في أعقاب فشل إعلان دمشق: إن من قتلوا الإعلان سيندمون أشد الندم ولكن بعد أن يكون الأوان قد فات, فسوريا لن تجد أمامها سوي التحالف مع إيران, أما مصر فلن تضيع وقتها في الاعتماد علي غيرها فيما يختص بأمنها القومي, ولن تكون قادرة علي مساعدة الآخرين ماداموا لا يريدون مساعدة أنفسهم أولا.
والذين أفشلوا إعلان دمشق ليسوا فقط الشركاء المباشرين, ولكن الولايات المتحدة لعبت دورا أساسيا في إجهاض هذه المحاولة العربية لملء الفراغ الاستراتيجي, حتى تحتكر لنفسها مسئولية الأمن في الخليج, وحتى لا يتطور ذلك التكتل الاستراتيجي العربي الذي كان يؤسس له إعلان دمشق ليكون مدخلا لتوازن استراتيجي يؤثر علي بقية القضايا والخطط في الإقليم ككل, وهنا التقت المصلحة الأمريكية مع المصلحة الإسرائيلية الدائمة والمتمثلة في مقاومة أية تحالفات إستراتيجية عربية ـ عربية حتى ولم تكن مواجهة إسرائيل من بين أولوياتها, بما أن أي تحسن في الأوضاع الإستراتيجية العربية سيؤثر علي مجريات الصراع العربي ـ الإسرائيلي وطرق إدارته وأساليب تسويته لصالح الأطراف العربية.