مقاوم
05-27-2007, 07:30 PM
مكانـة رمــوز الجهاد ، ونقـد المشروع الجهادي لترشيــده
حامد بن عبدالله العلي
ليست رموز الشموخ في أمّتنا ـ كما هـي في كلّ أمّـة ـ سوى النماذج التي تجسّـدت فيها رسالة الأمّة وقِيَمها ، فهـم كتابها الناطق بحضارتها ، وصرحها المشعّ بعظمتها ، وشمسها المنيرة بهمـتها السامقة ، وعلوّ مكانتها ،
إنهم يختصـرون بشخصيّتاتهم هذا كلّه ، ويعبـّرون بمواقفهم ، وبطولاتهم ، عن أهداف الأمـّة ، وسـرّ بعثـها بالحـق .
ولهذا يقترن ذكـرهم بالأمجاد، فنذكرها بذكرهـم ، ونستحضر العزّة بحضور مثالهـم ، ونستعيد تاريخنا بإنجازاتـه المليئة بالمفاخـر ، بمجرد ذكر أسماءهم ،
ولرموز الأمّـة وقادتهـا فينا أعلى منزلـة، وأعظم مكانة ، غير مدّعين لهم العصمة ، ولا غالين فيهم ، ولا محرّمين نقدهم ، بـل لأنهّم حقا نجوم الهدى ، ومصابيح الدجى ، والمنبع الذي يروي ظمأنا للعزيمـة عند الشدائد ، والعيـن الفيّاضـة التي تمدّنـا بالهـمّة العالية فتثبّت الأفئدة ، وتقوّي السـواعد.
وفي سـوح الجهـاد فـي أفغانستان ، والعراق ، وفلسطين ، والشيشان ، وكشمير ، والفلبين ، وغيرها ، تجلّـت لنا كواكـب ، بعـد أن كادت الأمّة أن تنسى غابـر الأمــثال من عظماء الأبطـال ، فأحيت بأفعالها للأمـّة الآمـال ، وأرسـلت علينا بتضحياتها المبْهرة رياحـا تحمـل بشائـر كسر الأغلال ، وتغيّـر الأحـوال ، والإنطلاق إلى قــمم الجبــال .
ولانريد أن نحصر الأسماء فنضرب الأمثـلة بادئيـن بشيخ الجهاد عبدالله عزام رحمه الله ، وننتهي إلى حين كتابة هذا المقال بآخر الكواكب الشامخة الملاّ داد الله الذي استشهد الأسبوع الماضي ، مرورا بمؤسس مدرسة الإستشهاديين أحمد ياسين رحمه الله ، وبأميرهـم الزرقاوي رحمه الله ، بـل سنـدع الكواكـب تستغني عــن ذكرهـا ، بإشراقها وسموهــا .
ونحـن مهما كتبنا فيهـم ، فحـقّهـم لن نوفيـه ، غير أننا نسأل الله تعالى أن يرفع قدرهـم وذكرهـم في الدنيا ، وفي الآخـرة يُعليـه .
ولأنّنـا أمة الإتّبـاع للرسول الخاتم المطـاع صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده لإجمـاع السلف خير الأتباع ، فإنّنا نجعـل المثال الأعلى الذي نقيس عليه مسيرة الأمّة كلّها ، هذا المثـال المتمثّل بالوحـي فحسـب ، فهو الحجـة الناطقة ، والأنوار الشارقة ، والبراهين التي للباطل ماحقـة .
ولأنّنـا أيّتها الأمّـة كذلك ، ولأنّ كلّ مشروع فينا ، هـو جزء من مشروع الأمة ، لها حـقّ أن تنقـده ، لتسترشد بنقده في مسيرة نهضتها ، وأن تسـمع بوضـوح من ينقـده ،
فإننا نقدم إرشادات مهمّة لمسيرة الجهـاد ، تتضمّن في طيّاتهـا نقـدا لمظاهـر خاطئة ، طفت على السـطح ، واستعلنـت ، ونرى أن المسيـرة بأمس الحاجة إلى هذه الإرشادات اليوم ، وإلى النقـد الذاتي ، بعد أن أنشغلنا عن ذلك ـ حينا ـ بضـخّ التحريض ، وشـحذ الهمــم ، في فورة الهجوم الصهيوصليبي على أمّتنـا ، حتى إنكسـرت شوكـته ، وانكفأ يبحـث عن خلاصـه ، بفضل الله تعالى ، ثم سواعد الأبطال ،
فنحن بعد انتشرت في الأمّـة جذوة الجهـاد ، وانتعشت عزيمته ، واستغلظ ، واستوى على سوقـه ، وأخـذت الأمـّة في مشـروع جهـاد طويـل الأمـد فيما يبدو ، ولم نعـد نخشـى على حدِّه من الاستعلان بنقـده ،
لايجوز لنـا أن ندع الخلل يسـتقر بالسكوت عنه ، فنتحمل إثـم الساكت عن الحـق ، حتى يتعاظـم الخطـأ ، الذي إذا بقي في البذور مستودعـا ، فسيظهـر أثره في الثمار قبيحا مستبشعـا.
فنـقول وبالله التوفــيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيـل ،
هذه جملة من الإرشادات :
حماية الجهاد من داء الحزبية المذمومة المقيت :
فهذا الداء أشدّ فتكا بمشروع الجهاد من كلّ داء ، وأخطـر ما فيه أنه يحوّل النية من إبتغاء وجه الله تعالى في نصر الأمـّة ، إلى الإنتصار للمشروع الخاص ، بما يسوقه ذلك من أخلاق الشـحّ ، وأمراض التحاسد ، وآثار التباغض والتدابر ، حتى يحمل المبتلوْن بهذا الداء أنفسَهم على الظلم ، والعـدوان على غيـرهم من أخوة الجهـاد ، وعلى الكذب ، والإنتصار للنفس ، وإتباع الهوى ،
يبدأ الـداء بتتبّع معايـب الآخريـن لإسقاطهم ، وينتهي بسفك دماءهم بخداع النفس بباطل التأويـل ، وإتباع الظنـون .
الحفاظ على منظومة قيادة الرأي سليمة من العبث
فهذه الأمّـة مازالت يقودها أئمة العلم المعروفون بالعدالة ، والمعرفة ، والوعي ، يقودونهـا إلى صائب الرأي ، وسلامة المواقف ، ولم يكن في تاريخها لأهل الجهل ، و الجهالة ، أيّ منزلـة ، إذ في ذلك إزراء بميراث النبوّة ، وحـطّ من مكانـة الوحـي فيها ،
وقـد علمت أمتنا أن قيادة الرأي هـي أخطـر منزلة ، والخلل فيها يستتبعه دمار ينتقل في مراحل المسيرة كلّها ، ولهذا قدمت العلماء الأئمة تستنير بآراءهم ، وتجعل الناس تبعا لهـم ، امتثالا لقوله تعالى ( فاسألوا أهل الذكر ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (العلماء هم ورثة الأنبياء ) .
وياللعجب أيّ قيمة لرسالة أمّـة ، تسلّط الغوغاء على قيادة الرأي ، فتلقي إليهم خطامه ، ويملكون زمامه ، يقيّمون العلماء ، والمفكرين ، يحطّون هذا ، ويرفعون ذاك ، ويخطّطون ، وينظّرون ، حتى تمتلأ الساحة من الفوضى الفكرية ، والعبث في العقول والمدارك ،
فالجهاد مالم يقـم أمره على تنظيم سليم لقيادة الرأي على رأسه العلماءُ العارفون ، يرجع إليهم الأتبـاع ، ويقدمون كلمتهم ، لن يكون رشـيدا .
خطورة التجنيـد العشــوائي :
ومعنى التجنيد العشوائي ، هو التساهل في قبول المنتمين إلى المشروع من غير شروط فكريّة ، أو سلوكيّة ، ولا قطع مراحل تربويّة ، وهذا الداء يسـرى للجهاد ، عندما تتساهل القيادة في النظام الأمني رغبة في إستعجال الثمرة ، أو حرصا على تكثير العدد في ساحة تتصاعد فيها المنافسة ، أو جنوحا إلى البروز الإعلامي ، وأخطـر ما يحمله هذا الدعاء أنه يحوّل جبهـة الجهـاد إلى مشروع مخترق ، يتنافس على إستغلاله قوى خارجية ، كلّ منها يوجّـه مشروع الجهـاد إلى حيث يحصد ثمراته إليـه ، فتضيـع دماء المخلصين هدرا ، وتهُـدر أهداف الجهاد شذرا .
ومن ينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى بجلاء ، كيف كان يقيم هرم مشروعه على قواعد متينة من رجال هُمُ القـمم ، باشر تربيتهم بنفـسه ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وكذلك كلّ نبيّ ( وكأيّن من نبيّ قاتل معه ربيّون كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا ، وما استكانوا )
خطورة سيطرة نظرية المؤامـرة عند كلّ نقـد :
وهذا المرض من آثار الإعتداد بالنفس وتضخيمها لدى المشروع الجهـادي ، فيتعامل مع مشروعه كأنّه الأمل الوحيد المعصـوم ، ومن أشـنع آثاره أنه يُغـلق عليه تقبّل النصح ، والنقد ، ويتخيـّل أنّ الجميع في دائرة المؤامـرة عليه ، ويترجم كلّ موقف يعارضه أنـّه مدفوع من قبل أعداءه فحسـب ، ويزيد إستحكام هذه المعضلة ، مع الزخم الإعلامي مديحا ، أو تنويـها بخطـره ، فلا تسأل بعد ذلك عن تراكـم الأخطاء ، وتعاظمها ، حتى تقضي على المشروع .
البيئة الحاضنة لمشروع الجهاد أولا :
ذلك أنّ مشروع الجهاد الناجـح ليس تنفيسا عنفـيّا مجردا بلا غاية ، ولا هـو ردّات فعل إنتقامية ، ولا إستعراض عضلات في بطولات سرعان ما تنقلب إلى حطام ،
إنه مشروع تغيير لأمّة تريد النهوض ، فإذا لم يتوفر له بيئة حاضنة له ، فليس هو مشروع تغيير ناجـح ، ولهذا لـم تنجح مشاريع الصدام مع السلطات ، بينما تنجح مشاريع مقاومة الإحتـلال ، كما أشرت في فتوى منشورة على هذا الموقع.
ولهذا أمـرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي جنـد له ربُّه ملائكة السماء ، ومعه الوعد الإلهـي بالنصر ، وأنصاره في مكـة أشجع الناس ، وأصبرهم ، وأمضاهم عزيمة ، أمـرَ أصحابه بكفّ الأيدي ، والصـبر ، حتى إنتقل إلى بيئة تحتضن مشروعه فانطلق منها راشدا مستكملا رسالته ، عبـر مراحلها إلى أهدافه.
ومن أخطـر ما يصيب المشروع الجهادي إن هـو لم يـع هذا الأمر المهم ، فانطلق بحماسة عشوائية في غير بيئته ، أنـّه سرعان ما يجد نفسه في صدام مع المجتمع نفسه ، لا مع العـدوّ التي استعـدّ المشروع لحربـه ، إذ كان عـدوّه يملك كلّ وسائل التأثير على المجتمـع ، فيفرض العـدوّ وجهة المعركة ، وساحتها ، وطبيعتها ،
ثم يتطور هذا الصدام بالمشروع إلى تخبـط فكري مشـوب بانكفاء نفسي مخيف لدى المشروع الجهـادي ، وقـد يتحوّل إلى غلوّ بشـع ، فنهاية مأساوية ، أو تراجع إلى الضـد يثير الشفقة ، بعد أن يحـرق طاقات كثيـرة ، لو أنها وضعت في مشروع ناجح لأينعت ثمـاره سريـعا !
ومن أمثلة التاريخ ، أنـّه قد أشار أهل السابقة من الصحابة على الحسين رضي الله عنه ، سيد شباب أهل الجنـة ، أنّ البيئة لا تصلح لما تريد ، فلمّا مالـت نفسـه إلى الاسترواح أنّ نصـره منوط بمكانته في الأمّة ، وعلوّ منزلته ، ففـرط في تدابير النجاح ، ذُبـح وهو ريحانة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكيـف بغيـره ؟!!
إنّ التمكـين لن ينـزل على المجاهدين لأنهّم مخلصون فحسـب ، فإذا استعدوْا بيئتهـم عليهـم ، بعجلة جائشة ، وسهام طائشة ، ولم يعـوْا أن كسب الناس ، ولو بتــرك قتل من يستحق القتل ، لدفع مفسدة أعظـم ، فسيُذبحـون ، ويذبح معهم مشروعهـم ،
وهذا ينقلنا إلــى :
الحرص على سمعة المشروع الجهـادي ، وتقبّل مشروعـة في الناس:
سيرة نبّينا صلى الله عليه وسلم مليئة بالمواقف التي تتجلّى فيها هذه الناحية ، ومن ذلك أنـّه سمع أشنع كلمة ، وأقبحها ، قـد قيلت فيه ، وهي قــول رأس المنافقين عبدالله بن أبي : ( ما مثلنا ومثل محمد إلاّ كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعـزّ منها الأذل ) ، فقال عمر رضي الله عنه (دعني اضرب عنق هذا الخبيث ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعه لا يتحدَّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) ،
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تحمّـل هذه الإساءة البالغة ، وتـرك من قال هذه الكلمات التي وصفها الله تعالى ( ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) من أجـل أن يُبقى سمعةَ مشروعه سليمة من الإشاعات ، بلْه غيرها ، فكيف بغيـره ؟!
ومعلومٌ ما في الحكمة النبوية القائلة ( كيف وقد قيل ) من فوائد عظيمة ، يجب أن لايغفل عنها المشروع الجهـادي.
ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ربما يعفو عـمّن يهـمّ بقتله ، ويستفيد بذلك حسن الدعايـة له ولرسالته .
فقد روت كتب الحديث والسيرة عن جابر قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفه بنخل فرأوا من المسلمين بغرة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث ، حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ، فقال من يمنعك منّي ، قال الله ، فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال من يمنعك مني ، قال : كن خير آخذ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : تشهد أن لا إله إلا الله ، فقال الأعرابي: لا ، غير أني أعاهدك أن لا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيلـه ، وفي بعض روايات هذا الخبر ، رجع إلى أصحابه فقال : جئتـكم من عند خير الناس.
ولهذا كانت عناوين الإسلام العامة كلّها ، تلقي في نفوس البشر ، الإطمئنان ، والراحة ، والإستبشار مما فيه ، فالإسلام من السلم ، والإيمان من الأمن ، والإحسان أعلى منازل الديـن ، كمـا الرحمة شعاره ، قال تعالى ( وما أرسلنا إلاّ رحمة للعالمين ) ، والخيريّة مناره ، قال تعالى ( كنتم خيـر أمة أخرجت للناس ) ، ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) والوسطية هي الخيرية ، حتى تقبله نفوس البشـر .
ولهذا كان الجهاد ذا أهـداف ترجع إلى تحقيق هذه المعانـي فحسـب ، لم يكن القتل فيه مقصودا لذاته ، ومن هنا لم يعرف التاريخ حروب أمـّة ، كانت أكثر إنضباطا من حروب المسلمين ، ولا أزكى أثاراً على الناس منها .
ويستفاد من هذا أنّ ظهور المشروع الجهادي في وسائل الإعلام يجب أن يكون الإنطباع العام فيـه ، والأشـد وضوحـا عليه ، هـو إبراز رسالة الإسلام السامية هـذه ، وإن احتيج إلى إرهاب العدو أحيانا فيجب أن لايطغى على هـذا الإطار ، بل يكون محتويا فيه .
نعم ، فالله تعالى جعـل هذه الأمّـة الخيّـرة معيارا ، فما شاع فيها من إستحسان وقبول فهو علامـة على الخيـر ، والعكس بالعكس ، وقد قال الحبر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ( ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن ) ، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم شكر الأمّة عمل المؤمن عاجل بشراه ، ويجعل الله تعالى في قلوب عباده قبولا لمن يحبه .
ولايمكن لمشروع أن ينجح بالقوّة وحدها ، متجاهلا قبول الناس، وحسن إستقبالهـم لـه ، وأثـر سمعته الطيـّبة في نفوسهم ، فكيف إذا كان مشروع أمـّة الخير ، والرحمة ، والإحسان ، وقد ورد أنّ صلاة من أمّ قومـا وهـم له كارهون محجـوبة ، وأنّ شر الحكام من يلعـن الناس ويلعنونه ،
ومعلوم أنَّ الطغاة مهما حاولوا تشويه سمعة أهل الجهاد فإنهـم يفشلون ماداموا يكذبون دفاعاً عن باطلهم ، وإرضاءً لأعداء الأمـّة ، وستبقى الأمّة ـ إلاّ الذين في قلوبهم مرض والغوغاء ـ في ريبٍ مما يقول الطغـاة ، إنْ لم يكذّبوه ،
وأن التعاطف مع القائم بالحقّ على الطغـيان ، مركوز في نفوسهـم ، معقود في فطرهم ، حتى يقع في المشروع الجهـادي الخـلل ، فيضع في يـد عدوّه أعظـم سلاح يقاتله بـه ، وهو إزالة غطاء القبول والتأييد لـه في الأمـّـة .
كما هو معلوم أنّ من يبتغـي إلغـاء جهود الأمـّة ، ويتجهـّم لمشاريع الخير فيها ، ويحتقـر ما يفعله أهلُ الخيـر من غيـره ، وينظر إلى نفسه أنـّه الأمـل الوحيـد الرفيـع ، والنهـج الفـرد المنيـع ، فعاقبته الفشـل ، ونهايته الخطـل ، و( من قال هلك الناس فهو أهلكهـم ) حديث .
المراحـل ، المـراحـل
قد خلـق الله تعالى الدنيا في ستة أيام ، ونـقل خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلى التمكين التام عبر مراحل ، كان خطاب كلّ مرحلة يناسبها ، حتى تـمّ أمره ، ومضت الحكمة القائلة ( من استعجل الشيء قبل أوانه ، عوقب بحرمانه ) ، والجهـاد لايمكنه أن يحقق هدفه من التمكين إلاّ بمروره عبر مراحل التمكين ، ولن يحقق شيئا بالقفـز على المراحل إلاّ السـقوط ، ولا من حرقها إلاّ حـرق نفسه ،
وفي كلّ مرحلة يحتاج إلى صياغة خطاب سياسي يناسبها ، من غير تنازل عن الحـق ، ولا مداهنـة للجاهلية ، وكذلك كانت سيرة النبي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقـد وضع وثيقة صلح الحدييبية ، بحيث بدا ظاهرها ـ عند أحسن الناس فهما ـ أنها مجحفة للطرف الإسلامي ، وكانت في حقيقتها فتحا مبينا ، وكان خطابها قد اقتضى أن يؤجـل الصدام مع أشـدّ الناس عداوة له ، وأن يدخـل في حلف مع من لايؤمـن برسالته ، فقد دخلت خزاعة في حلفه ، واستغل هذه المرحلة ، ليخضع من حول دولته من الأعراب ، والقبائـل ، ، ثم بعد الفتـح ، انتقل إلى مرحلة ما وراء جزيرة العرب ، وهكذا كانت سيـرته .
ولايصنع الذين يقفزون إلى اسم التمكين دون مسمّاه ، وشعاره دون حقيقته ، سوى خداع النفـس ، وإلهاءها بالأماني ، وليس هذا حـلاّ لما يتوقّع من الصراع الداخـلي ، بل هـو استجلابٌ له ،
فلا يمنع من الصراع على ثمار الجهاد ، إلاّ ائتلاف الكلمة ، وتصافي القلوب ، بعد وحـدة الأهداف ، وتقارب الرؤى ، وتلك مهمـة قيادات من ذوي الرأي ، والحلم ، والعلم ، فهي التي تثمـر العواقب الرشيدة ، لا إلى السـلاح ، والدماء بين أهل الجهـاد ، فهذه تثـمر مزيدا منها لاغيـر ، وتنجـب الخراب فحسـب ،
وهذا ما عرفه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وابن الحسن رضي الله عنه ، فتركا الإحتكام إلى السلاح في عاقبـة أمرهما ، وآثرا العصمة من الدماء ، في مآلهما ، في قتال كانوا هــم فيه على الحق ، فكيف بقتال غيـر هذا ، وكيف في جيل غير جيلهـم ؟!
الأخلاق ، الأخلاق :
لقد وصف الله تعالى الرسالة التي بعث به خاتم النبيين صلى الله عليـــه وسلَّم قائـلا ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وفي الحديث ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وبدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بتلاوة آيات القرآن الحاضّة بعد التوحيد ، على إكرام اليتيم ، وإطعام المسكين ، وإنقاذ الموءودة ، وكانت سيرته التي هيأ الله بها قبولـه قبل ذلك ، أنّه يقري الضيف ، ويحمل الكلّ ، ويغيث الملهوف ، ويصل الرحم ، ويعين على نوائب الحق ، وأنّه الصادق الأمين ، وختـم مشروعه في أوّل قرار اتخذه بعد التمكين بأن عـفا عن أعداءه حتى التي أكـلت كبد عمّه .
وليت شعري إنما يسود الناس بمكارم الأخلاق ، إن هـم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ، ولئن مكَّن الله تعالى دينه بغلاظ القـلوب ، لا أحـلام لهـم يعلمون بها فضيلـة الجـود على المخطئين بالعفـو ، ولايكرمون كريما ، ولا ينزلون الناس منازلهم ، ولا يعرفون لذي الحـقوق حقـوقهـم ، فإنه مضيّـع هذا الدين ، والله تعالى العليـم الحكـيم لايفعل ذلك ،
وانـظروا في الناس ، فمن رأيتموهـم زيّنهـم الله تعالى بمكارم الأخلاق ، وحـلاّهـم بحليتها ، فاعلموا أنـّه يسوّدهم بديـنه ، ويمكّنهـم بـه لامحالـة ، ومن رأيتموهـم بخلاف ذلك ، فسيضمحـلون لامحالة .
وعي الواقع، ومعادلة الصراع ، ومشاريع الأعداء
وقد وضع الله تعالى في الحياة سننا ، وجعلهـا أسبابا تثمر مسبّباتها ، فمن أخذ بأسباب النجاح ، أثمـرت له ثمارها ، ومن فـرّط فيها تشتَّت عليـه شمله ، وضاع عليه هدفه ، وحتى الأنبياء أمروا في صراعهـم مع أعداءهم ، أن يأخذوا بهذه الأسباب ، ولما حصـل التقصير فيها في معسكرهم حُبس عنهم النصر ، كما في قصة أحـد ، وحتى نزل قول الحق سبحانه ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ، قل هو من عنـد أنفسـكم ) .
ومن أعظـم ما يفرح الطغاة ، ويستفيدون منه ، مشروعٌ جهادي ، جاهل بواقع الحياة ، في غفلة تامة عن معادلة الصراع في بيئته ، ساذج سياسيا لايدري عن حقيقة مشاريع الأعداء ، وطرق مكرهم وكيدهـم .
فينظرون إليه على أنه مادّة خام مثاليّة ، لتكريس طغيانهم ، أو لحرق المشروع الجهادي في إيجاد توازنات يحتاجها العـدوّ ، أو تغيير في توازنات موجـودة إلى حيث يستفيد من هذا التغيـّـر ، أو يحرق المشروع الجهـادي في صراع آخـر ، يقف بعد ذلك على حطامه محقـقا أهدافا طاغوتية لم يكن يحلم بتحقيقها لولا سذاجة القائمين على المشروع الجهادي .
إنّ توظيـف الجهـاد ممكن ، بل هو واقـع اليوم ،و
ستبدي لك الأيام ما كان خافيا ** ويأتيك بالأنباء من لـم تزوّد
ولهذا فإن المشروع الجهادي إذا لم يكن واعيا بكل التداخلات ، والتجاذبات بين القوى المتصارعة الدولية والإقليمية في ساحة وجوده ، فهـو مفرّط في أعـظم أسباب النجاح ، إذ المعرفة أعـظم قوة ، ومعرفـة العـدوّ على رأسها ، وحينئذ لن يجني إلاّ على نفسـه ،
ثـمّ إن أمّة العلم والوعي ، ليسـت مطالبة أن تسلك في مشاريع جاهلة ، أو تؤيـّد من يفـرّط فيما أمر الله تعالى به من الإعداد فيجني ثمار تفريطه .
والله أعلى وأعلم وهو حسبنا ونعم الوكيـل نعم المولى ونعم النصيـر
اللهم إني قد بلغـت اللهم فاشــهد ،،
حامد بن عبدالله العلي
ليست رموز الشموخ في أمّتنا ـ كما هـي في كلّ أمّـة ـ سوى النماذج التي تجسّـدت فيها رسالة الأمّة وقِيَمها ، فهـم كتابها الناطق بحضارتها ، وصرحها المشعّ بعظمتها ، وشمسها المنيرة بهمـتها السامقة ، وعلوّ مكانتها ،
إنهم يختصـرون بشخصيّتاتهم هذا كلّه ، ويعبـّرون بمواقفهم ، وبطولاتهم ، عن أهداف الأمـّة ، وسـرّ بعثـها بالحـق .
ولهذا يقترن ذكـرهم بالأمجاد، فنذكرها بذكرهـم ، ونستحضر العزّة بحضور مثالهـم ، ونستعيد تاريخنا بإنجازاتـه المليئة بالمفاخـر ، بمجرد ذكر أسماءهم ،
ولرموز الأمّـة وقادتهـا فينا أعلى منزلـة، وأعظم مكانة ، غير مدّعين لهم العصمة ، ولا غالين فيهم ، ولا محرّمين نقدهم ، بـل لأنهّم حقا نجوم الهدى ، ومصابيح الدجى ، والمنبع الذي يروي ظمأنا للعزيمـة عند الشدائد ، والعيـن الفيّاضـة التي تمدّنـا بالهـمّة العالية فتثبّت الأفئدة ، وتقوّي السـواعد.
وفي سـوح الجهـاد فـي أفغانستان ، والعراق ، وفلسطين ، والشيشان ، وكشمير ، والفلبين ، وغيرها ، تجلّـت لنا كواكـب ، بعـد أن كادت الأمّة أن تنسى غابـر الأمــثال من عظماء الأبطـال ، فأحيت بأفعالها للأمـّة الآمـال ، وأرسـلت علينا بتضحياتها المبْهرة رياحـا تحمـل بشائـر كسر الأغلال ، وتغيّـر الأحـوال ، والإنطلاق إلى قــمم الجبــال .
ولانريد أن نحصر الأسماء فنضرب الأمثـلة بادئيـن بشيخ الجهاد عبدالله عزام رحمه الله ، وننتهي إلى حين كتابة هذا المقال بآخر الكواكب الشامخة الملاّ داد الله الذي استشهد الأسبوع الماضي ، مرورا بمؤسس مدرسة الإستشهاديين أحمد ياسين رحمه الله ، وبأميرهـم الزرقاوي رحمه الله ، بـل سنـدع الكواكـب تستغني عــن ذكرهـا ، بإشراقها وسموهــا .
ونحـن مهما كتبنا فيهـم ، فحـقّهـم لن نوفيـه ، غير أننا نسأل الله تعالى أن يرفع قدرهـم وذكرهـم في الدنيا ، وفي الآخـرة يُعليـه .
ولأنّنـا أمة الإتّبـاع للرسول الخاتم المطـاع صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده لإجمـاع السلف خير الأتباع ، فإنّنا نجعـل المثال الأعلى الذي نقيس عليه مسيرة الأمّة كلّها ، هذا المثـال المتمثّل بالوحـي فحسـب ، فهو الحجـة الناطقة ، والأنوار الشارقة ، والبراهين التي للباطل ماحقـة .
ولأنّنـا أيّتها الأمّـة كذلك ، ولأنّ كلّ مشروع فينا ، هـو جزء من مشروع الأمة ، لها حـقّ أن تنقـده ، لتسترشد بنقده في مسيرة نهضتها ، وأن تسـمع بوضـوح من ينقـده ،
فإننا نقدم إرشادات مهمّة لمسيرة الجهـاد ، تتضمّن في طيّاتهـا نقـدا لمظاهـر خاطئة ، طفت على السـطح ، واستعلنـت ، ونرى أن المسيـرة بأمس الحاجة إلى هذه الإرشادات اليوم ، وإلى النقـد الذاتي ، بعد أن أنشغلنا عن ذلك ـ حينا ـ بضـخّ التحريض ، وشـحذ الهمــم ، في فورة الهجوم الصهيوصليبي على أمّتنـا ، حتى إنكسـرت شوكـته ، وانكفأ يبحـث عن خلاصـه ، بفضل الله تعالى ، ثم سواعد الأبطال ،
فنحن بعد انتشرت في الأمّـة جذوة الجهـاد ، وانتعشت عزيمته ، واستغلظ ، واستوى على سوقـه ، وأخـذت الأمـّة في مشـروع جهـاد طويـل الأمـد فيما يبدو ، ولم نعـد نخشـى على حدِّه من الاستعلان بنقـده ،
لايجوز لنـا أن ندع الخلل يسـتقر بالسكوت عنه ، فنتحمل إثـم الساكت عن الحـق ، حتى يتعاظـم الخطـأ ، الذي إذا بقي في البذور مستودعـا ، فسيظهـر أثره في الثمار قبيحا مستبشعـا.
فنـقول وبالله التوفــيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيـل ،
هذه جملة من الإرشادات :
حماية الجهاد من داء الحزبية المذمومة المقيت :
فهذا الداء أشدّ فتكا بمشروع الجهاد من كلّ داء ، وأخطـر ما فيه أنه يحوّل النية من إبتغاء وجه الله تعالى في نصر الأمـّة ، إلى الإنتصار للمشروع الخاص ، بما يسوقه ذلك من أخلاق الشـحّ ، وأمراض التحاسد ، وآثار التباغض والتدابر ، حتى يحمل المبتلوْن بهذا الداء أنفسَهم على الظلم ، والعـدوان على غيـرهم من أخوة الجهـاد ، وعلى الكذب ، والإنتصار للنفس ، وإتباع الهوى ،
يبدأ الـداء بتتبّع معايـب الآخريـن لإسقاطهم ، وينتهي بسفك دماءهم بخداع النفس بباطل التأويـل ، وإتباع الظنـون .
الحفاظ على منظومة قيادة الرأي سليمة من العبث
فهذه الأمّـة مازالت يقودها أئمة العلم المعروفون بالعدالة ، والمعرفة ، والوعي ، يقودونهـا إلى صائب الرأي ، وسلامة المواقف ، ولم يكن في تاريخها لأهل الجهل ، و الجهالة ، أيّ منزلـة ، إذ في ذلك إزراء بميراث النبوّة ، وحـطّ من مكانـة الوحـي فيها ،
وقـد علمت أمتنا أن قيادة الرأي هـي أخطـر منزلة ، والخلل فيها يستتبعه دمار ينتقل في مراحل المسيرة كلّها ، ولهذا قدمت العلماء الأئمة تستنير بآراءهم ، وتجعل الناس تبعا لهـم ، امتثالا لقوله تعالى ( فاسألوا أهل الذكر ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (العلماء هم ورثة الأنبياء ) .
وياللعجب أيّ قيمة لرسالة أمّـة ، تسلّط الغوغاء على قيادة الرأي ، فتلقي إليهم خطامه ، ويملكون زمامه ، يقيّمون العلماء ، والمفكرين ، يحطّون هذا ، ويرفعون ذاك ، ويخطّطون ، وينظّرون ، حتى تمتلأ الساحة من الفوضى الفكرية ، والعبث في العقول والمدارك ،
فالجهاد مالم يقـم أمره على تنظيم سليم لقيادة الرأي على رأسه العلماءُ العارفون ، يرجع إليهم الأتبـاع ، ويقدمون كلمتهم ، لن يكون رشـيدا .
خطورة التجنيـد العشــوائي :
ومعنى التجنيد العشوائي ، هو التساهل في قبول المنتمين إلى المشروع من غير شروط فكريّة ، أو سلوكيّة ، ولا قطع مراحل تربويّة ، وهذا الداء يسـرى للجهاد ، عندما تتساهل القيادة في النظام الأمني رغبة في إستعجال الثمرة ، أو حرصا على تكثير العدد في ساحة تتصاعد فيها المنافسة ، أو جنوحا إلى البروز الإعلامي ، وأخطـر ما يحمله هذا الدعاء أنه يحوّل جبهـة الجهـاد إلى مشروع مخترق ، يتنافس على إستغلاله قوى خارجية ، كلّ منها يوجّـه مشروع الجهـاد إلى حيث يحصد ثمراته إليـه ، فتضيـع دماء المخلصين هدرا ، وتهُـدر أهداف الجهاد شذرا .
ومن ينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى بجلاء ، كيف كان يقيم هرم مشروعه على قواعد متينة من رجال هُمُ القـمم ، باشر تربيتهم بنفـسه ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وكذلك كلّ نبيّ ( وكأيّن من نبيّ قاتل معه ربيّون كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا ، وما استكانوا )
خطورة سيطرة نظرية المؤامـرة عند كلّ نقـد :
وهذا المرض من آثار الإعتداد بالنفس وتضخيمها لدى المشروع الجهـادي ، فيتعامل مع مشروعه كأنّه الأمل الوحيد المعصـوم ، ومن أشـنع آثاره أنه يُغـلق عليه تقبّل النصح ، والنقد ، ويتخيـّل أنّ الجميع في دائرة المؤامـرة عليه ، ويترجم كلّ موقف يعارضه أنـّه مدفوع من قبل أعداءه فحسـب ، ويزيد إستحكام هذه المعضلة ، مع الزخم الإعلامي مديحا ، أو تنويـها بخطـره ، فلا تسأل بعد ذلك عن تراكـم الأخطاء ، وتعاظمها ، حتى تقضي على المشروع .
البيئة الحاضنة لمشروع الجهاد أولا :
ذلك أنّ مشروع الجهاد الناجـح ليس تنفيسا عنفـيّا مجردا بلا غاية ، ولا هـو ردّات فعل إنتقامية ، ولا إستعراض عضلات في بطولات سرعان ما تنقلب إلى حطام ،
إنه مشروع تغيير لأمّة تريد النهوض ، فإذا لم يتوفر له بيئة حاضنة له ، فليس هو مشروع تغيير ناجـح ، ولهذا لـم تنجح مشاريع الصدام مع السلطات ، بينما تنجح مشاريع مقاومة الإحتـلال ، كما أشرت في فتوى منشورة على هذا الموقع.
ولهذا أمـرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي جنـد له ربُّه ملائكة السماء ، ومعه الوعد الإلهـي بالنصر ، وأنصاره في مكـة أشجع الناس ، وأصبرهم ، وأمضاهم عزيمة ، أمـرَ أصحابه بكفّ الأيدي ، والصـبر ، حتى إنتقل إلى بيئة تحتضن مشروعه فانطلق منها راشدا مستكملا رسالته ، عبـر مراحلها إلى أهدافه.
ومن أخطـر ما يصيب المشروع الجهادي إن هـو لم يـع هذا الأمر المهم ، فانطلق بحماسة عشوائية في غير بيئته ، أنـّه سرعان ما يجد نفسه في صدام مع المجتمع نفسه ، لا مع العـدوّ التي استعـدّ المشروع لحربـه ، إذ كان عـدوّه يملك كلّ وسائل التأثير على المجتمـع ، فيفرض العـدوّ وجهة المعركة ، وساحتها ، وطبيعتها ،
ثم يتطور هذا الصدام بالمشروع إلى تخبـط فكري مشـوب بانكفاء نفسي مخيف لدى المشروع الجهـادي ، وقـد يتحوّل إلى غلوّ بشـع ، فنهاية مأساوية ، أو تراجع إلى الضـد يثير الشفقة ، بعد أن يحـرق طاقات كثيـرة ، لو أنها وضعت في مشروع ناجح لأينعت ثمـاره سريـعا !
ومن أمثلة التاريخ ، أنـّه قد أشار أهل السابقة من الصحابة على الحسين رضي الله عنه ، سيد شباب أهل الجنـة ، أنّ البيئة لا تصلح لما تريد ، فلمّا مالـت نفسـه إلى الاسترواح أنّ نصـره منوط بمكانته في الأمّة ، وعلوّ منزلته ، ففـرط في تدابير النجاح ، ذُبـح وهو ريحانة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكيـف بغيـره ؟!!
إنّ التمكـين لن ينـزل على المجاهدين لأنهّم مخلصون فحسـب ، فإذا استعدوْا بيئتهـم عليهـم ، بعجلة جائشة ، وسهام طائشة ، ولم يعـوْا أن كسب الناس ، ولو بتــرك قتل من يستحق القتل ، لدفع مفسدة أعظـم ، فسيُذبحـون ، ويذبح معهم مشروعهـم ،
وهذا ينقلنا إلــى :
الحرص على سمعة المشروع الجهـادي ، وتقبّل مشروعـة في الناس:
سيرة نبّينا صلى الله عليه وسلم مليئة بالمواقف التي تتجلّى فيها هذه الناحية ، ومن ذلك أنـّه سمع أشنع كلمة ، وأقبحها ، قـد قيلت فيه ، وهي قــول رأس المنافقين عبدالله بن أبي : ( ما مثلنا ومثل محمد إلاّ كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعـزّ منها الأذل ) ، فقال عمر رضي الله عنه (دعني اضرب عنق هذا الخبيث ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعه لا يتحدَّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) ،
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تحمّـل هذه الإساءة البالغة ، وتـرك من قال هذه الكلمات التي وصفها الله تعالى ( ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) من أجـل أن يُبقى سمعةَ مشروعه سليمة من الإشاعات ، بلْه غيرها ، فكيف بغيـره ؟!
ومعلومٌ ما في الحكمة النبوية القائلة ( كيف وقد قيل ) من فوائد عظيمة ، يجب أن لايغفل عنها المشروع الجهـادي.
ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ربما يعفو عـمّن يهـمّ بقتله ، ويستفيد بذلك حسن الدعايـة له ولرسالته .
فقد روت كتب الحديث والسيرة عن جابر قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفه بنخل فرأوا من المسلمين بغرة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث ، حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ، فقال من يمنعك منّي ، قال الله ، فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال من يمنعك مني ، قال : كن خير آخذ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : تشهد أن لا إله إلا الله ، فقال الأعرابي: لا ، غير أني أعاهدك أن لا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيلـه ، وفي بعض روايات هذا الخبر ، رجع إلى أصحابه فقال : جئتـكم من عند خير الناس.
ولهذا كانت عناوين الإسلام العامة كلّها ، تلقي في نفوس البشر ، الإطمئنان ، والراحة ، والإستبشار مما فيه ، فالإسلام من السلم ، والإيمان من الأمن ، والإحسان أعلى منازل الديـن ، كمـا الرحمة شعاره ، قال تعالى ( وما أرسلنا إلاّ رحمة للعالمين ) ، والخيريّة مناره ، قال تعالى ( كنتم خيـر أمة أخرجت للناس ) ، ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) والوسطية هي الخيرية ، حتى تقبله نفوس البشـر .
ولهذا كان الجهاد ذا أهـداف ترجع إلى تحقيق هذه المعانـي فحسـب ، لم يكن القتل فيه مقصودا لذاته ، ومن هنا لم يعرف التاريخ حروب أمـّة ، كانت أكثر إنضباطا من حروب المسلمين ، ولا أزكى أثاراً على الناس منها .
ويستفاد من هذا أنّ ظهور المشروع الجهادي في وسائل الإعلام يجب أن يكون الإنطباع العام فيـه ، والأشـد وضوحـا عليه ، هـو إبراز رسالة الإسلام السامية هـذه ، وإن احتيج إلى إرهاب العدو أحيانا فيجب أن لايطغى على هـذا الإطار ، بل يكون محتويا فيه .
نعم ، فالله تعالى جعـل هذه الأمّـة الخيّـرة معيارا ، فما شاع فيها من إستحسان وقبول فهو علامـة على الخيـر ، والعكس بالعكس ، وقد قال الحبر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ( ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن ) ، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم شكر الأمّة عمل المؤمن عاجل بشراه ، ويجعل الله تعالى في قلوب عباده قبولا لمن يحبه .
ولايمكن لمشروع أن ينجح بالقوّة وحدها ، متجاهلا قبول الناس، وحسن إستقبالهـم لـه ، وأثـر سمعته الطيـّبة في نفوسهم ، فكيف إذا كان مشروع أمـّة الخير ، والرحمة ، والإحسان ، وقد ورد أنّ صلاة من أمّ قومـا وهـم له كارهون محجـوبة ، وأنّ شر الحكام من يلعـن الناس ويلعنونه ،
ومعلوم أنَّ الطغاة مهما حاولوا تشويه سمعة أهل الجهاد فإنهـم يفشلون ماداموا يكذبون دفاعاً عن باطلهم ، وإرضاءً لأعداء الأمـّة ، وستبقى الأمّة ـ إلاّ الذين في قلوبهم مرض والغوغاء ـ في ريبٍ مما يقول الطغـاة ، إنْ لم يكذّبوه ،
وأن التعاطف مع القائم بالحقّ على الطغـيان ، مركوز في نفوسهـم ، معقود في فطرهم ، حتى يقع في المشروع الجهـادي الخـلل ، فيضع في يـد عدوّه أعظـم سلاح يقاتله بـه ، وهو إزالة غطاء القبول والتأييد لـه في الأمـّـة .
كما هو معلوم أنّ من يبتغـي إلغـاء جهود الأمـّة ، ويتجهـّم لمشاريع الخير فيها ، ويحتقـر ما يفعله أهلُ الخيـر من غيـره ، وينظر إلى نفسه أنـّه الأمـل الوحيـد الرفيـع ، والنهـج الفـرد المنيـع ، فعاقبته الفشـل ، ونهايته الخطـل ، و( من قال هلك الناس فهو أهلكهـم ) حديث .
المراحـل ، المـراحـل
قد خلـق الله تعالى الدنيا في ستة أيام ، ونـقل خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلى التمكين التام عبر مراحل ، كان خطاب كلّ مرحلة يناسبها ، حتى تـمّ أمره ، ومضت الحكمة القائلة ( من استعجل الشيء قبل أوانه ، عوقب بحرمانه ) ، والجهـاد لايمكنه أن يحقق هدفه من التمكين إلاّ بمروره عبر مراحل التمكين ، ولن يحقق شيئا بالقفـز على المراحل إلاّ السـقوط ، ولا من حرقها إلاّ حـرق نفسه ،
وفي كلّ مرحلة يحتاج إلى صياغة خطاب سياسي يناسبها ، من غير تنازل عن الحـق ، ولا مداهنـة للجاهلية ، وكذلك كانت سيرة النبي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقـد وضع وثيقة صلح الحدييبية ، بحيث بدا ظاهرها ـ عند أحسن الناس فهما ـ أنها مجحفة للطرف الإسلامي ، وكانت في حقيقتها فتحا مبينا ، وكان خطابها قد اقتضى أن يؤجـل الصدام مع أشـدّ الناس عداوة له ، وأن يدخـل في حلف مع من لايؤمـن برسالته ، فقد دخلت خزاعة في حلفه ، واستغل هذه المرحلة ، ليخضع من حول دولته من الأعراب ، والقبائـل ، ، ثم بعد الفتـح ، انتقل إلى مرحلة ما وراء جزيرة العرب ، وهكذا كانت سيـرته .
ولايصنع الذين يقفزون إلى اسم التمكين دون مسمّاه ، وشعاره دون حقيقته ، سوى خداع النفـس ، وإلهاءها بالأماني ، وليس هذا حـلاّ لما يتوقّع من الصراع الداخـلي ، بل هـو استجلابٌ له ،
فلا يمنع من الصراع على ثمار الجهاد ، إلاّ ائتلاف الكلمة ، وتصافي القلوب ، بعد وحـدة الأهداف ، وتقارب الرؤى ، وتلك مهمـة قيادات من ذوي الرأي ، والحلم ، والعلم ، فهي التي تثمـر العواقب الرشيدة ، لا إلى السـلاح ، والدماء بين أهل الجهـاد ، فهذه تثـمر مزيدا منها لاغيـر ، وتنجـب الخراب فحسـب ،
وهذا ما عرفه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وابن الحسن رضي الله عنه ، فتركا الإحتكام إلى السلاح في عاقبـة أمرهما ، وآثرا العصمة من الدماء ، في مآلهما ، في قتال كانوا هــم فيه على الحق ، فكيف بقتال غيـر هذا ، وكيف في جيل غير جيلهـم ؟!
الأخلاق ، الأخلاق :
لقد وصف الله تعالى الرسالة التي بعث به خاتم النبيين صلى الله عليـــه وسلَّم قائـلا ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وفي الحديث ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وبدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بتلاوة آيات القرآن الحاضّة بعد التوحيد ، على إكرام اليتيم ، وإطعام المسكين ، وإنقاذ الموءودة ، وكانت سيرته التي هيأ الله بها قبولـه قبل ذلك ، أنّه يقري الضيف ، ويحمل الكلّ ، ويغيث الملهوف ، ويصل الرحم ، ويعين على نوائب الحق ، وأنّه الصادق الأمين ، وختـم مشروعه في أوّل قرار اتخذه بعد التمكين بأن عـفا عن أعداءه حتى التي أكـلت كبد عمّه .
وليت شعري إنما يسود الناس بمكارم الأخلاق ، إن هـم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ، ولئن مكَّن الله تعالى دينه بغلاظ القـلوب ، لا أحـلام لهـم يعلمون بها فضيلـة الجـود على المخطئين بالعفـو ، ولايكرمون كريما ، ولا ينزلون الناس منازلهم ، ولا يعرفون لذي الحـقوق حقـوقهـم ، فإنه مضيّـع هذا الدين ، والله تعالى العليـم الحكـيم لايفعل ذلك ،
وانـظروا في الناس ، فمن رأيتموهـم زيّنهـم الله تعالى بمكارم الأخلاق ، وحـلاّهـم بحليتها ، فاعلموا أنـّه يسوّدهم بديـنه ، ويمكّنهـم بـه لامحالـة ، ومن رأيتموهـم بخلاف ذلك ، فسيضمحـلون لامحالة .
وعي الواقع، ومعادلة الصراع ، ومشاريع الأعداء
وقد وضع الله تعالى في الحياة سننا ، وجعلهـا أسبابا تثمر مسبّباتها ، فمن أخذ بأسباب النجاح ، أثمـرت له ثمارها ، ومن فـرّط فيها تشتَّت عليـه شمله ، وضاع عليه هدفه ، وحتى الأنبياء أمروا في صراعهـم مع أعداءهم ، أن يأخذوا بهذه الأسباب ، ولما حصـل التقصير فيها في معسكرهم حُبس عنهم النصر ، كما في قصة أحـد ، وحتى نزل قول الحق سبحانه ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ، قل هو من عنـد أنفسـكم ) .
ومن أعظـم ما يفرح الطغاة ، ويستفيدون منه ، مشروعٌ جهادي ، جاهل بواقع الحياة ، في غفلة تامة عن معادلة الصراع في بيئته ، ساذج سياسيا لايدري عن حقيقة مشاريع الأعداء ، وطرق مكرهم وكيدهـم .
فينظرون إليه على أنه مادّة خام مثاليّة ، لتكريس طغيانهم ، أو لحرق المشروع الجهادي في إيجاد توازنات يحتاجها العـدوّ ، أو تغيير في توازنات موجـودة إلى حيث يستفيد من هذا التغيـّـر ، أو يحرق المشروع الجهـادي في صراع آخـر ، يقف بعد ذلك على حطامه محقـقا أهدافا طاغوتية لم يكن يحلم بتحقيقها لولا سذاجة القائمين على المشروع الجهادي .
إنّ توظيـف الجهـاد ممكن ، بل هو واقـع اليوم ،و
ستبدي لك الأيام ما كان خافيا ** ويأتيك بالأنباء من لـم تزوّد
ولهذا فإن المشروع الجهادي إذا لم يكن واعيا بكل التداخلات ، والتجاذبات بين القوى المتصارعة الدولية والإقليمية في ساحة وجوده ، فهـو مفرّط في أعـظم أسباب النجاح ، إذ المعرفة أعـظم قوة ، ومعرفـة العـدوّ على رأسها ، وحينئذ لن يجني إلاّ على نفسـه ،
ثـمّ إن أمّة العلم والوعي ، ليسـت مطالبة أن تسلك في مشاريع جاهلة ، أو تؤيـّد من يفـرّط فيما أمر الله تعالى به من الإعداد فيجني ثمار تفريطه .
والله أعلى وأعلم وهو حسبنا ونعم الوكيـل نعم المولى ونعم النصيـر
اللهم إني قد بلغـت اللهم فاشــهد ،،