مقاوم
05-30-2007, 02:21 PM
ملخص تقرير شركة "راند" الداعي إلى تشكيل شبكات إسلامية معتدلة
ملخص التقرير
التفسيرات المتطرفة والمتعنتة للإسلام وجدت في السنوات الأخيرة مساحة كافية في المجتمعات المسلمة. وبالرغم من تعدد الأسباب التي تقف وراء هذا الأمر، ومع أن هنالك عدد كبير ومتزايد من الكتابات التي تحاول استكشاف هذه الظاهرة، إلاّ أنه من الواضح أن هنالك عوامل هيكلية بعينها تلعب الدور الأكبر في هذا الموضوع. فانتشار النظم السياسية الاستبدادية وضمور مؤسسات المجتمع المدني في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي جعل من المسجد واحداً من المنابر القليلة جداً التي يمكن التعبير من خلالها عن استياء الجمهور وعدم رضاه عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة. وفي بعض الدول الاستبدادية، يقدم المتطرفون الإسلاميون أنفسهم على أنهم البديل الوحيد الذي يمكنه الصمود أمام الحالة الراهنة. حيث يشنون معاركهم عبر وسائل الإعلام الجماهيرية وميادين السياسة، كلٌ في بلده الذي ينتمي إليه- سواء كان ذلك بشكل علني أو سري، وذلك حسب مستوى القمع السياسي الذي يسود في بلدانهم.
وعلى العموم، فإن المتطرفين (وكذلك الحكومات الاستبدادية) نجحوا في إخافة وتهميش، أو إسكات المعتدلين من المسلمين- الذين يتمسكون بالأبعاد الرئيسية للثقافة الديمقراطية – بدرجات مختلفة. كما حدث في مصر، وإيران، والسودان، وليبيا، تعرض المثقفون المسلمون في بعض الأحيان إلى القتل أو اضطروا للهروب إلى الخارج. وحتى إندونيسيا التي تعتبر دولة ليبرالية نسبياً، لجأت إلى العنف والتهديد بالعنف لتخويف خصومها ومعارضيها. كما أن هذه التكتيكات يتم تبنيها بشكل متزايد أيضاً في الشتات المسلم في الغرب.
وإلى جانب رغبة المتطرفين في اللجوء إلى العنف لإرغام إخوانهم المسلمين على الانصياع لوجهات نظرهم الدينية والسياسية، يتفوق هؤلاء على المعتدلين واللبراليين المسلمين بميزتين مهمتين للغاية. أولاهما المال. فتمويل السعودية لتصدير المذهب الوهابي الإسلامي خلال العقود الثلاثة الماضية كان له أثر كبير، سواء كان ذلك مقصوداً، أو هكذا دون قصد، في تشجيع نمو التطرف الديني في كافة أنحاء العالم الإسلامي. والميزة الثانية التي يتمتع بها الراديكاليون هي التنظيم. فقد تمكنت الجماعات الراديكالية على مر السنين من بناء شبكات واسعة، وهذه بدورها أصبحت جزءاً من شبكة كثيفة من العلاقات الدولية.
وعدم التماثل هذا في الموارد والتنظيم هو ما يفسر السبب الذي يجعل الراديكاليون، تلك الأقلية القليلة، في جميع الدول الإسلامية تقريباً، أن يكونوا مؤثرين بما لا يتناسب مع أعدادهم. بينما المسلمون الليبراليون والمعتدلون بشكل عام، لا يمتلكون الأدوات التنظيمية التي تعينهم على مواجهة الراديكاليين، ولذلك فإن إنشاء الشبكات الإسلامية المعتدلة سيوفر للمعتدلين الأطر والمنابر التي تساعدهم في بسط رسالتهم بين الناس، بالإضافة إلى أنها توفر لهم بعض الحماية من المتطرفين. كما أن هذه الشبكات المعتدلة ستوفر لهم أيضاً تدابير معينة تحميهم من حكوماتهم التي تقوم باضطهاد المعتدلين في بعض الأحيان لأنهم يقدمون بدائل للحكم الاستبدادي أفضل من تلك التي يقدمها المتطرفون.
وبما أن المعتدلون يفتقرون إلى الموارد لإنشاء هذه الشبكات بأنفسهم، فإن إنشاء هذه الشبكات قد يحتاج إلى وجود محفز خارجي. ويقول البعض أن الولايات المتحدة بصفتها دولة ذات غالبية غير مسلمة، لا يمكنها القيام بهذا الدور. كما أن العقبات التي تقف أمام الـتأثير الفعّال من أجل إحداث التغييرات الاجتماعية والسياسية، لا يمكن الاستهانة بها. ومع ذلك، واعتماداً على الخبرة السابقة إبان الحرب الباردة في رعاية الشبكات التي تلتزم بالأفكار الحرة والديمقراطية، فإن الولايات المتحدة يمكنها أن تلعب دوراً هاماً في موازنة الأمور لترجيح كفة المعتدلين.
وفي هذا التقرير نقدم في البداية وصفاً للكيفية التي إتباعت في بناء الشبكات إبان الحرب الباردة- وكيف تمكنت الولايات المتحدة من تحديد ودعم الشركاء، وما هي الطريقة التي لجأت إليها لتتجنب تعريضهم للخطر. ثانياً، نقوم بتحليل أوجه الشبه والاختلاف بين بيئة الحرب الباردة والنزاع الذي يدور الآن مع الإسلام الراديكالي، وكيفية تأثير هذا التشابه أو الاختلاف على جهود الولايات المتحدة في بناء الشبكات في يومنا هذا. وثالثاً، نقوم بدراسة استراتيجيات وبرامج التشجيع التي تتبعها الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي. وأخيراً، وبعد معرفة الجهود التي كانت تبذل إبان الحرب الباردة، وبالاستناد إلى الدراسات السابقة التي قامت بها مؤسسة راند حول الميول الفكرية في العالم الإسلامي، سنقوم بوضع "خارطة طريق" لعملية بناء شبكات ومؤسسات إسلامية معتدلة. ومن النتائج الرئيسية لهذا التقرير-والتي تعتبر أهم النتائج حسب قول أحد الذين قاموا بمراجعة هذا التقرير- هي أن الحكومة الأمريكية وحلفائها في حاجة -مع أن هذا الأمر قد فشل ولم ينجح حتى الآن- إلى وضع معايير واضحة للشراكة مع المعتدلين الأصليين. والنتيجة النهائية، المعروفة سلفاً، هي تثبيط المسلمين المعتدلين الحقيقيين.
دروس الحرب الباردة
الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة وشركائها خلال السنوات الأولى من الحرب الباردة للمساعدة في بناء مؤسسات ومنظمات حرة وديمقراطية، تشتمل على دروس يمكن الاستفادة منها في الحرب الكونية التي تدور الآن ضد الإرهاب. ففي بداية الحرب الباردة، لم يكن الاتحاد السوفيتي يعوّل فقط على ولاء الأحزاب الشيوعية القوية في أوربا (والتي كان بعضها من أكبر الأحزاب وأكثرها تنظيماً في بلدانها وقد بدت وكأنها أصبحت على وشك الوصول إلى السلطة عبر الوسائل الديمقراطية) بل كان يعتمد أيضاً على لفيف من المنظمات- كاتحادات العمال، والمنظمات الشبابية والطلابية، وروابط الصحفيين- التي ساعدت العناصر التي كان يدعمها السوفييت في السيطرة على قطاعات هامة من المجتمع. بينما خارج أوربا الغربية، كان من بين حلفاء السوفييت، عدد من "حركات التحرر" التي كانت تناضل ضد الحكم الاستعماري. ولذلك، فإن نجاح سياسة الاحتواء الأمريكية كانت تتطلب (بالإضافة إلى الدرع العسكري الذي هيأته القوة النووية الأمريكية والقوات التقليدية) إنشاء منظمات ديمقراطية موازية لمنافسة الهيمنة الشيوعية على مؤسسات المجتمع المدني. والعلاقة الوثيقة بين الإستراتيجية الأمريكية الكبرى وجهودها لبناء شبكات ديمقراطية كانت المكون الرئيسي في نجاح سياسة الاحتواء الأمريكية، وهي في حد ذاتها تمثل نموذج يمكن الاستفادة منه بالنسبة لصناع القرار في عصرنا الحاضر.
ومن بين المميزات الهامة لمبادرات الولايات المتحدة وحلفائها لبناء الشبكات إبان الحرب الباردة، العلاقة بين القطاعين العام والخاص. بينما في الولايات المتحدة وأوروبا، كانت هنالك حركة فكرية مناهضة للشيوعية، وخصوصاً في أوساط اليسار غير الشيوعي. وقد كانت هنالك حاجة إلى المال والتنظيم لتحويل الجهود الفردية إلى حملة متماسكة. فالولايات المتحدة لم تنشئ هذه الشبكات من فراغ، بل وُلدت هذه الشبكات من حركات ثقافية وسياسة كبيرة كانت الولايات المتحدة والحكومات الأخرى ترعاها بشكل سري.
وفي كل هذه المساعي تقريباً، كانت الحكومة الأمريكية تتصرف كما لو كانت مجرد مؤسسة. حيث كانت تقيّم المشاريع لمعرفة ما إذا كانت تصلح لتعزيز المصالح الأمريكية، ثم بتقديم التمويل لهذه المشاريع، ومن ثم تبني مبدأ عدم التدخل في شؤونها، وذلك بالسماح للمنظمات التي قامت بدعمها لكي تقوم بأهدافها بدون أي تدخل خارجي. وكأي مؤسسة، قامت الحكومة الأمريكية بوضع موجهات للكيفية التي يجب إتباعها لإنفاق الأموال. ولكن المسؤولون الأمريكيون بشكل عام أدركوا أنه كلما بعدت المسافة بين حكومتهم والمنظمات التي تدعمها، كلما كان ذلك أدعى لنجاح نشاطات المنظمة.
غير أن الولايات المتحدة اليوم تواجه العديد من التحديات في بناء الشبكات الديمقراطية في العالم الإسلامي كالتي واجهت صناع القرار في بداية الحرب الباردة. وهنالك ثلاثة تحديات أساسية تبدو ذات علاقة وطيدة بموضوعنا هذا. أولاً، في نهاية عقد الأربعينيات وبداية الخمسينيات، كان هنالك نقاش بين صناع القرار الأمريكيين حول ما إذا كانت جهودهم لبناء الشبكات يجب أن تكون هجومية أم دفاعية. حيث كان البعض يعتقد أن على الولايات المتحدة إتباع استراتيجية هجومية هدفها القضاء على الحكم الشيوعي في أوربا الشرقية وعلى الاتحاد السوفيتي، وذلك من خلال تقديم المساعدة، العلنية أو السرية، لبعض الجماعات التي تعمل بشكل جاد للإطاحة بالحكومات الشيوعية في تلك الدول. بينما كان البعض الآخر يؤمن بإتباع استراتيجية تميل أكثر إلى الدفاع، وتتركز على "احتواء" التهديد السوفيتي، وذلك من خلال تعزيز القوى الديمقراطية في أوربا الغربية، وآسيا، وأمريكا اللاتينية. وبالرغم من أن الإستراتيجية الدفاعية هي التي كانت سائدة في أغلب الأحيان، إلاّ أن الولايات المتحدة كانت تسعى لتغيير اتجاه تدفق الأفكار التي كان يتم توجيهها الغرب، وتعيدها إلى الاتحاد السوفيتي ومنظماته، بالعمل على تسريب الأفكار الديمقراطية إلى خلف الستار الحديدي من خلال المنظمات التي تم بناؤها حديثاً.
والتحدي الثاني الذي واجه صناع القرار إبان الحرب الباردة هو المحافظة على مصداقية الجماعات التي كانت تدعمها الولايات المتحدة. فقد حاول منظمون الجهود الأمريكية لبناء الشبكات أن يقللوا من المخاطر التي كانت تواجه هذه الجماعات، وذلك أولاً من خلال الإبقاء على مسافة معينة بين هذه الجماعات والحكومة الأمريكية، وثانياً، باختيار شخصيات بارزة تتمتع بقدر كبير من المصداقية الشخصية أو الذاتية وذلك لشغل المناصب القيادية في هذه الشبكات. والحكومة الأمريكية كانت بدورها تشجع النشاطات التي كانت تقوم بها بعض المنظمات المستقلة لبناء الشبكات، وذلك مثل اتحاد العمل الأمريكي.
والتحدي الثالث الذي كان يواجه صناع القرار الأمريكي هو تحديد الحجم الذي ينبغي أن يكون عليه التحالف ضد الشيوعية. فعلى سبيل المثال، هل يمكن لهذا التحالف أن يضم الاشتراكيين الذين انقلبوا على الشيوعيين، ولكنهم مع ذلك لا يزالون ينتقدون الكثير من جوانب السياسة الأمريكية؟ وفي نهاية الأمر، قررت الولايات المتحدة أن أي شخص يمكنه أن يكون جزءاً من هذا التحالف، طالما أنه يؤمن بمبادئ محددة تمت الإشارة إليها. فعلى سبيل المثال، بطاقة الانضمام إلى مؤتمر الحرية الثقافية كانت الموافقة على مناوئة الاستبداد. فعدم الاتفاق مع السياسة الأمريكية كان مسموحاً به- بل كان يجد التشجيع أيضاً- لأنه ساعد في بناء المصداقية والاستقلالية لدى المنظمات التي كان يتم دعمها.
أوجه الشبه والاختلاف بين بيئة الحرب الباردة والعالم الإسلامي اليوم
هنالك ثلاث خطوط متوازية كبرى تقف بين بيئة الحرب الباردة وعصرنا الحاضر. أولاً، الولايات المتحدة، في نهاية عقد الأربعينيات، وكذلك في الوقت الحاضر، واجهت ولا تزال تواجه بيئة جيوسياسية جديدة ومربكة، ومصحوبة بتهديدات أمنية جديدة. ففي بداية الحرب الباردة كان التهديد يتمثل في حركة شيوعية عالمية يقودها الاتحاد السوفيتي الذي كان يتسلح بالقوة النووية، وأما تهديد اليوم فتمثله الحركة الجهادية التي تسعى لضرب الغرب من خلال أعمال إرهابية تتسبب في أعداد كبيرة من الإصابات. ثانياً، وكما كانت الحال في عقد الأربعينيات، لقد شهدنا إنشاء إدارات كبرى في الحكومة الأمريكية لمواجهة هذه التهديدات. وأخيراً، وهو الأهم، خلال سنوات الحرب الباردة كان هنالك اعتراف واسع بأن الولايات المتحدة وحلفائها كانوا متورطين في حرب أفكار. وقد أدرك صناع القرار أن هذا النزاع سيدور حوله نقاش من خلال أبعاد دبلوماسية واقتصادية وعسكرية. واليوم، وكما جاء في اعترافات وزارة الدفاع الأمريكية في تقريرها الذي يصدر كل أربع سنوات، فإن الولايات المتحدة متورطة في حرب هي في الحقيقة "تحتاج إلى السلاح والأفكار في آن واحد"، والتي لا يمكن أن يتحقق فيها الانتصار النهائي إلاّ إذا تم "تعزيز الشكوك في الأفكار المتطرفة من قبل المجتمعات التي تستضيفها والأشخاص الذين يؤيدونها ضمنياً".
وبطبيعة الحال، وكما هو الحال في جميع الحالات المتماثلة، من المهم أن نشير إلى أوجه الشبه وكذلك أوجه الاختلاف بين الماضي والحاضر. والاتحاد السوفيتي، كدولة قومية لديه مصالح رسمية في حماية الحدود الجغرافية المعروفة، والهيكل الواضح للحكومة. بينما اليوم، وعلى العكس من ذلك، الولايات المتحدة تواجه عناصر غامضة لا صلة لها بالدولة ولا تهيمن على أي منطقة (بالرغم من أن البعض تمكن من إنشاء ملاجئ خارج سيطرت الدولة) ويرفضون قيم النظام العالمي، ولا يخضعون لوسائل الردع الطبيعية. الجدول (S1) أدناه يلخص أوجه الاختلاف الرئيسية بين بيئة الحرب الباردة، والبيئة التي تسود العالم الإسلامي اليوم.
ملخص التقرير
التفسيرات المتطرفة والمتعنتة للإسلام وجدت في السنوات الأخيرة مساحة كافية في المجتمعات المسلمة. وبالرغم من تعدد الأسباب التي تقف وراء هذا الأمر، ومع أن هنالك عدد كبير ومتزايد من الكتابات التي تحاول استكشاف هذه الظاهرة، إلاّ أنه من الواضح أن هنالك عوامل هيكلية بعينها تلعب الدور الأكبر في هذا الموضوع. فانتشار النظم السياسية الاستبدادية وضمور مؤسسات المجتمع المدني في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي جعل من المسجد واحداً من المنابر القليلة جداً التي يمكن التعبير من خلالها عن استياء الجمهور وعدم رضاه عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة. وفي بعض الدول الاستبدادية، يقدم المتطرفون الإسلاميون أنفسهم على أنهم البديل الوحيد الذي يمكنه الصمود أمام الحالة الراهنة. حيث يشنون معاركهم عبر وسائل الإعلام الجماهيرية وميادين السياسة، كلٌ في بلده الذي ينتمي إليه- سواء كان ذلك بشكل علني أو سري، وذلك حسب مستوى القمع السياسي الذي يسود في بلدانهم.
وعلى العموم، فإن المتطرفين (وكذلك الحكومات الاستبدادية) نجحوا في إخافة وتهميش، أو إسكات المعتدلين من المسلمين- الذين يتمسكون بالأبعاد الرئيسية للثقافة الديمقراطية – بدرجات مختلفة. كما حدث في مصر، وإيران، والسودان، وليبيا، تعرض المثقفون المسلمون في بعض الأحيان إلى القتل أو اضطروا للهروب إلى الخارج. وحتى إندونيسيا التي تعتبر دولة ليبرالية نسبياً، لجأت إلى العنف والتهديد بالعنف لتخويف خصومها ومعارضيها. كما أن هذه التكتيكات يتم تبنيها بشكل متزايد أيضاً في الشتات المسلم في الغرب.
وإلى جانب رغبة المتطرفين في اللجوء إلى العنف لإرغام إخوانهم المسلمين على الانصياع لوجهات نظرهم الدينية والسياسية، يتفوق هؤلاء على المعتدلين واللبراليين المسلمين بميزتين مهمتين للغاية. أولاهما المال. فتمويل السعودية لتصدير المذهب الوهابي الإسلامي خلال العقود الثلاثة الماضية كان له أثر كبير، سواء كان ذلك مقصوداً، أو هكذا دون قصد، في تشجيع نمو التطرف الديني في كافة أنحاء العالم الإسلامي. والميزة الثانية التي يتمتع بها الراديكاليون هي التنظيم. فقد تمكنت الجماعات الراديكالية على مر السنين من بناء شبكات واسعة، وهذه بدورها أصبحت جزءاً من شبكة كثيفة من العلاقات الدولية.
وعدم التماثل هذا في الموارد والتنظيم هو ما يفسر السبب الذي يجعل الراديكاليون، تلك الأقلية القليلة، في جميع الدول الإسلامية تقريباً، أن يكونوا مؤثرين بما لا يتناسب مع أعدادهم. بينما المسلمون الليبراليون والمعتدلون بشكل عام، لا يمتلكون الأدوات التنظيمية التي تعينهم على مواجهة الراديكاليين، ولذلك فإن إنشاء الشبكات الإسلامية المعتدلة سيوفر للمعتدلين الأطر والمنابر التي تساعدهم في بسط رسالتهم بين الناس، بالإضافة إلى أنها توفر لهم بعض الحماية من المتطرفين. كما أن هذه الشبكات المعتدلة ستوفر لهم أيضاً تدابير معينة تحميهم من حكوماتهم التي تقوم باضطهاد المعتدلين في بعض الأحيان لأنهم يقدمون بدائل للحكم الاستبدادي أفضل من تلك التي يقدمها المتطرفون.
وبما أن المعتدلون يفتقرون إلى الموارد لإنشاء هذه الشبكات بأنفسهم، فإن إنشاء هذه الشبكات قد يحتاج إلى وجود محفز خارجي. ويقول البعض أن الولايات المتحدة بصفتها دولة ذات غالبية غير مسلمة، لا يمكنها القيام بهذا الدور. كما أن العقبات التي تقف أمام الـتأثير الفعّال من أجل إحداث التغييرات الاجتماعية والسياسية، لا يمكن الاستهانة بها. ومع ذلك، واعتماداً على الخبرة السابقة إبان الحرب الباردة في رعاية الشبكات التي تلتزم بالأفكار الحرة والديمقراطية، فإن الولايات المتحدة يمكنها أن تلعب دوراً هاماً في موازنة الأمور لترجيح كفة المعتدلين.
وفي هذا التقرير نقدم في البداية وصفاً للكيفية التي إتباعت في بناء الشبكات إبان الحرب الباردة- وكيف تمكنت الولايات المتحدة من تحديد ودعم الشركاء، وما هي الطريقة التي لجأت إليها لتتجنب تعريضهم للخطر. ثانياً، نقوم بتحليل أوجه الشبه والاختلاف بين بيئة الحرب الباردة والنزاع الذي يدور الآن مع الإسلام الراديكالي، وكيفية تأثير هذا التشابه أو الاختلاف على جهود الولايات المتحدة في بناء الشبكات في يومنا هذا. وثالثاً، نقوم بدراسة استراتيجيات وبرامج التشجيع التي تتبعها الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي. وأخيراً، وبعد معرفة الجهود التي كانت تبذل إبان الحرب الباردة، وبالاستناد إلى الدراسات السابقة التي قامت بها مؤسسة راند حول الميول الفكرية في العالم الإسلامي، سنقوم بوضع "خارطة طريق" لعملية بناء شبكات ومؤسسات إسلامية معتدلة. ومن النتائج الرئيسية لهذا التقرير-والتي تعتبر أهم النتائج حسب قول أحد الذين قاموا بمراجعة هذا التقرير- هي أن الحكومة الأمريكية وحلفائها في حاجة -مع أن هذا الأمر قد فشل ولم ينجح حتى الآن- إلى وضع معايير واضحة للشراكة مع المعتدلين الأصليين. والنتيجة النهائية، المعروفة سلفاً، هي تثبيط المسلمين المعتدلين الحقيقيين.
دروس الحرب الباردة
الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة وشركائها خلال السنوات الأولى من الحرب الباردة للمساعدة في بناء مؤسسات ومنظمات حرة وديمقراطية، تشتمل على دروس يمكن الاستفادة منها في الحرب الكونية التي تدور الآن ضد الإرهاب. ففي بداية الحرب الباردة، لم يكن الاتحاد السوفيتي يعوّل فقط على ولاء الأحزاب الشيوعية القوية في أوربا (والتي كان بعضها من أكبر الأحزاب وأكثرها تنظيماً في بلدانها وقد بدت وكأنها أصبحت على وشك الوصول إلى السلطة عبر الوسائل الديمقراطية) بل كان يعتمد أيضاً على لفيف من المنظمات- كاتحادات العمال، والمنظمات الشبابية والطلابية، وروابط الصحفيين- التي ساعدت العناصر التي كان يدعمها السوفييت في السيطرة على قطاعات هامة من المجتمع. بينما خارج أوربا الغربية، كان من بين حلفاء السوفييت، عدد من "حركات التحرر" التي كانت تناضل ضد الحكم الاستعماري. ولذلك، فإن نجاح سياسة الاحتواء الأمريكية كانت تتطلب (بالإضافة إلى الدرع العسكري الذي هيأته القوة النووية الأمريكية والقوات التقليدية) إنشاء منظمات ديمقراطية موازية لمنافسة الهيمنة الشيوعية على مؤسسات المجتمع المدني. والعلاقة الوثيقة بين الإستراتيجية الأمريكية الكبرى وجهودها لبناء شبكات ديمقراطية كانت المكون الرئيسي في نجاح سياسة الاحتواء الأمريكية، وهي في حد ذاتها تمثل نموذج يمكن الاستفادة منه بالنسبة لصناع القرار في عصرنا الحاضر.
ومن بين المميزات الهامة لمبادرات الولايات المتحدة وحلفائها لبناء الشبكات إبان الحرب الباردة، العلاقة بين القطاعين العام والخاص. بينما في الولايات المتحدة وأوروبا، كانت هنالك حركة فكرية مناهضة للشيوعية، وخصوصاً في أوساط اليسار غير الشيوعي. وقد كانت هنالك حاجة إلى المال والتنظيم لتحويل الجهود الفردية إلى حملة متماسكة. فالولايات المتحدة لم تنشئ هذه الشبكات من فراغ، بل وُلدت هذه الشبكات من حركات ثقافية وسياسة كبيرة كانت الولايات المتحدة والحكومات الأخرى ترعاها بشكل سري.
وفي كل هذه المساعي تقريباً، كانت الحكومة الأمريكية تتصرف كما لو كانت مجرد مؤسسة. حيث كانت تقيّم المشاريع لمعرفة ما إذا كانت تصلح لتعزيز المصالح الأمريكية، ثم بتقديم التمويل لهذه المشاريع، ومن ثم تبني مبدأ عدم التدخل في شؤونها، وذلك بالسماح للمنظمات التي قامت بدعمها لكي تقوم بأهدافها بدون أي تدخل خارجي. وكأي مؤسسة، قامت الحكومة الأمريكية بوضع موجهات للكيفية التي يجب إتباعها لإنفاق الأموال. ولكن المسؤولون الأمريكيون بشكل عام أدركوا أنه كلما بعدت المسافة بين حكومتهم والمنظمات التي تدعمها، كلما كان ذلك أدعى لنجاح نشاطات المنظمة.
غير أن الولايات المتحدة اليوم تواجه العديد من التحديات في بناء الشبكات الديمقراطية في العالم الإسلامي كالتي واجهت صناع القرار في بداية الحرب الباردة. وهنالك ثلاثة تحديات أساسية تبدو ذات علاقة وطيدة بموضوعنا هذا. أولاً، في نهاية عقد الأربعينيات وبداية الخمسينيات، كان هنالك نقاش بين صناع القرار الأمريكيين حول ما إذا كانت جهودهم لبناء الشبكات يجب أن تكون هجومية أم دفاعية. حيث كان البعض يعتقد أن على الولايات المتحدة إتباع استراتيجية هجومية هدفها القضاء على الحكم الشيوعي في أوربا الشرقية وعلى الاتحاد السوفيتي، وذلك من خلال تقديم المساعدة، العلنية أو السرية، لبعض الجماعات التي تعمل بشكل جاد للإطاحة بالحكومات الشيوعية في تلك الدول. بينما كان البعض الآخر يؤمن بإتباع استراتيجية تميل أكثر إلى الدفاع، وتتركز على "احتواء" التهديد السوفيتي، وذلك من خلال تعزيز القوى الديمقراطية في أوربا الغربية، وآسيا، وأمريكا اللاتينية. وبالرغم من أن الإستراتيجية الدفاعية هي التي كانت سائدة في أغلب الأحيان، إلاّ أن الولايات المتحدة كانت تسعى لتغيير اتجاه تدفق الأفكار التي كان يتم توجيهها الغرب، وتعيدها إلى الاتحاد السوفيتي ومنظماته، بالعمل على تسريب الأفكار الديمقراطية إلى خلف الستار الحديدي من خلال المنظمات التي تم بناؤها حديثاً.
والتحدي الثاني الذي واجه صناع القرار إبان الحرب الباردة هو المحافظة على مصداقية الجماعات التي كانت تدعمها الولايات المتحدة. فقد حاول منظمون الجهود الأمريكية لبناء الشبكات أن يقللوا من المخاطر التي كانت تواجه هذه الجماعات، وذلك أولاً من خلال الإبقاء على مسافة معينة بين هذه الجماعات والحكومة الأمريكية، وثانياً، باختيار شخصيات بارزة تتمتع بقدر كبير من المصداقية الشخصية أو الذاتية وذلك لشغل المناصب القيادية في هذه الشبكات. والحكومة الأمريكية كانت بدورها تشجع النشاطات التي كانت تقوم بها بعض المنظمات المستقلة لبناء الشبكات، وذلك مثل اتحاد العمل الأمريكي.
والتحدي الثالث الذي كان يواجه صناع القرار الأمريكي هو تحديد الحجم الذي ينبغي أن يكون عليه التحالف ضد الشيوعية. فعلى سبيل المثال، هل يمكن لهذا التحالف أن يضم الاشتراكيين الذين انقلبوا على الشيوعيين، ولكنهم مع ذلك لا يزالون ينتقدون الكثير من جوانب السياسة الأمريكية؟ وفي نهاية الأمر، قررت الولايات المتحدة أن أي شخص يمكنه أن يكون جزءاً من هذا التحالف، طالما أنه يؤمن بمبادئ محددة تمت الإشارة إليها. فعلى سبيل المثال، بطاقة الانضمام إلى مؤتمر الحرية الثقافية كانت الموافقة على مناوئة الاستبداد. فعدم الاتفاق مع السياسة الأمريكية كان مسموحاً به- بل كان يجد التشجيع أيضاً- لأنه ساعد في بناء المصداقية والاستقلالية لدى المنظمات التي كان يتم دعمها.
أوجه الشبه والاختلاف بين بيئة الحرب الباردة والعالم الإسلامي اليوم
هنالك ثلاث خطوط متوازية كبرى تقف بين بيئة الحرب الباردة وعصرنا الحاضر. أولاً، الولايات المتحدة، في نهاية عقد الأربعينيات، وكذلك في الوقت الحاضر، واجهت ولا تزال تواجه بيئة جيوسياسية جديدة ومربكة، ومصحوبة بتهديدات أمنية جديدة. ففي بداية الحرب الباردة كان التهديد يتمثل في حركة شيوعية عالمية يقودها الاتحاد السوفيتي الذي كان يتسلح بالقوة النووية، وأما تهديد اليوم فتمثله الحركة الجهادية التي تسعى لضرب الغرب من خلال أعمال إرهابية تتسبب في أعداد كبيرة من الإصابات. ثانياً، وكما كانت الحال في عقد الأربعينيات، لقد شهدنا إنشاء إدارات كبرى في الحكومة الأمريكية لمواجهة هذه التهديدات. وأخيراً، وهو الأهم، خلال سنوات الحرب الباردة كان هنالك اعتراف واسع بأن الولايات المتحدة وحلفائها كانوا متورطين في حرب أفكار. وقد أدرك صناع القرار أن هذا النزاع سيدور حوله نقاش من خلال أبعاد دبلوماسية واقتصادية وعسكرية. واليوم، وكما جاء في اعترافات وزارة الدفاع الأمريكية في تقريرها الذي يصدر كل أربع سنوات، فإن الولايات المتحدة متورطة في حرب هي في الحقيقة "تحتاج إلى السلاح والأفكار في آن واحد"، والتي لا يمكن أن يتحقق فيها الانتصار النهائي إلاّ إذا تم "تعزيز الشكوك في الأفكار المتطرفة من قبل المجتمعات التي تستضيفها والأشخاص الذين يؤيدونها ضمنياً".
وبطبيعة الحال، وكما هو الحال في جميع الحالات المتماثلة، من المهم أن نشير إلى أوجه الشبه وكذلك أوجه الاختلاف بين الماضي والحاضر. والاتحاد السوفيتي، كدولة قومية لديه مصالح رسمية في حماية الحدود الجغرافية المعروفة، والهيكل الواضح للحكومة. بينما اليوم، وعلى العكس من ذلك، الولايات المتحدة تواجه عناصر غامضة لا صلة لها بالدولة ولا تهيمن على أي منطقة (بالرغم من أن البعض تمكن من إنشاء ملاجئ خارج سيطرت الدولة) ويرفضون قيم النظام العالمي، ولا يخضعون لوسائل الردع الطبيعية. الجدول (S1) أدناه يلخص أوجه الاختلاف الرئيسية بين بيئة الحرب الباردة، والبيئة التي تسود العالم الإسلامي اليوم.