مشاهدة النسخة كاملة : قصص قصيرة اعجبتني
السلام عليكم ايها الاحبة
ان شاء الله.. ساضع في هذا الملف قصصا قصيرة استوقفتني
عزام
الحافلــة
بقلم الدكتور / أحمد مراد
كان الوقت هو الظهيرة .. الشمس ترتفع في كبد السماء .. وبالرغم من بعدها الشاسع .. إلا أن حرارتها تكاد أن تكوي الأجساد .. ولم تكن هناك نسمة هواء واحدة تلطف هذا الجو غير عوادم السيارات التي تكاد أن تجهز علي ّ مختنقا ...
كان ذلك الموعد هو موعد خروج الموظفين من أماكن عملهم إلى حيث يطلبون الراحة في ابتسامة أطفالهم .. وهدوء منازلهم ...
كانو أشبه بأسراب النمل أثناء خروجها من مخابئها ..
وعند موقف حافلات النقل العام وقفت منتظرا تلك الحافلة التي ستوصلني إلى مآبي اليومي ..
وبعد مدة ليست بالوجيزة أقبلت .. . كان مشهدها يبعث على اليأس من أمل الركوب بها .. فقد كانت الأبواب متفجرة بالبشر الذين يزدحمون عليها .. وبالرغم من هذا المشهد المتكرر يوميا إلا أني لم أفقد الأمل ككثير غيري انطلقوا نحوها في سباق جنوني ... ولست ادري كيف قفزت تلك القفزة التي يحسدني عليها أمهر لاعبي السيرك .. ولا كيف أمسكت يدي بذلك القائم المجاور للباب .. ولوهلة ظلت قدماي معلقتان بالهواء .. وأخيرا استقرتا فوق قدمي آخر أخذ يسب ويلعن وأنا أدعي الصم تجنبا للمشاكل وتبادل السباب الذي ينتهي كالعادة بلا شيء سوي إجهاد الأعصاب وتبخر الدم .. .
وبدأت رحلة الكفاح المقدسة .. ألا وهي شق طريقي وسط تلك الكتل الملتحمة .. كانت زفرات الضيق وأنات الإزعاج تلفني أثناء زحفي
.. وكالعادة لم أبال ..
وأخيرا تحرك أحد الواقفين ليهم بالنزول .. فانتهزتها فرصة واندفعت لأحل محله ..
وأخيرا استقرت قدماي واسترخي جسدي في وقفته ..
وبدأت زفرات الضيق وأنات الانزعاج تنطلق من فمي ردا على هؤلاء الذين يدفعونني بين الحين والآخر أثناء ذهابهم وإيابهم من خلفي ..
نظرت أمامي ..
فإذا بأغلب الجالسين على المقاعد من السيدات .. لقد أصبح الجلوس علي تلك المقاعد من ضمن الأحلام التي يصبوا إليها المرء ..
وأمامي مباشرة .. كانت تجلس فتاة في مقتبل عمرها وتمسك حقيبتها بكلتا يديها .. وبجوارها ناحية النافذة كان يجلس فتي في ريعان شبابه ..
كانت ملامحه تنطق بالوسامة .. وشعره اللامع المصفف بعناية تامة مع ملابسه الأنيقة توحي بذوقه الرفيع .. كان ينظر من النافذة بعينين حالمتين .. وبين الحين والآخر كنت ألمح عند زاوية فمه شبح ابتسامه ولكنها كانت تموت قبل أن تكتمل ..
وانعقد حاجباه بشدة عندما وقع بصره على مشهد حاولت مسرعا أن ألتقطه .. ولكني لم أستطع ..
وتحرك الواقف بجواري زاعما الهبوط .. فهممت أن أشغل حيزا أكبر من ذلك الذي كنت أنكمش فيه ..
ولكن ..
إذا برجل طاعن في السن ذهلت كيف أنه استطاع شق طريقه وسط تلك الأهوال .. فاضطررت أن أنسحب إلى داخلي كي أفسح له مجال الوقوف ..
.. وما إن وقف ذلك الشيخ حتى التقط أنفاسه بعمق وبدأ يتجول ببصره في الجالسين أمامه .. واستقرت عيناه على ذلك الشاب ..
وأخذ يتنحنح بصوت عال تعمد أن يلفت به الأنظار ..
نظر الشاب نحوه نظرة خاطفة وضع بعدها بصره بين قدميه وملامحه جامدة لا تعبر عما يعتمل بداخله .. وعاد ببصره ليحلق به عبر النافذة وكأنه لم ير شيئا ..
تأوه الشيخ بصوت مسموع .. وأمسك ظهره باحدي يديه .. والشاب لم يحاول الالتفات نحوه ..
وهنا قامت الفتاة الجالسة بجواره ودعت الشيخ ليحل محلها في كرسيها ويجلس عليه ..
والشيخ يحاول التمنع ولكنه جلس ..
والشاب أدار وجهه بأكثر ما يستطيع نحو النافذة ..
وهنا لم أستطع كتمان صوتي .. فقلت بصوت مرتفع ..
.. (( حقا لقد أصبح شباب هذه الأيام في مرتبة دون الفتيات ))
وكأن عبارتي كانت هي إشارة البدء ..
فقد انطلقت التعبيرات الساخرة .. وما أمرها تلك التعليقات التي تنطلق من فم هؤلاء الذين أرهق أعصابهم العمل والشد اليومي ..
كانت تلك الانتقادات بمثابة محاولة للتنفيس عما يعتمل بنفوسهم من رفض لأمور كثيرة ...
ولست أنكر أني كنت صاحب نصيب الأسد في تلك التلميحات القاتلة ..
وذلك الشاب لم أكن أري من وجهه سوى زاوية جانبية صغيرة كانت متعرجة بشدة دلالة أنه يعاني انفعال ما كنت في اشتياق لمعرفته ..
وظلت الحافلة منطلقة وقد بدأت تتخفف من الأعداد المثقلة بها ..
وأخيرا هم ذلك الشاب بالنزول ..
ويا للصاعقة ... !!!!
لقد كان المسكين مصاب بإعاقة في قدميه وكان يداريها بأحماله التي معه .. نظرت إلى وجهه فوجدت أثر الدموع المتجمدة عليها .. وعندما هبط نظر نحوي عبر النافذة .. كانت عيناه تحملان نظرة ألم عنيفة جعلتني أهوي و أنسحق إلى داخلي وأعماقي تهتز بعنف ..
لماذا يسبقنا سوء الظن دائما إلي الظاهر أمامنا ..
لماذا لا نتمثل قول الصحابي الجليل .. ( التمس لأخيك بضع وسبعون عذرا ) ؟؟
ظلت الأفكار تموج بي .. وتعصف بكياني ..
وانطلقت الحافلة بمن تبقي بها .
صورة عمتي
حسني سيد لبيب
كلما زرت عمتي، شدني البذخ الذي تعيش فيه، قياسا إلى المعيشة المتواضعة التي يحياها أبي. اضطره دخله الضئيل إلى حياة الشظف والتقشف. كلما اشتد ضيقي وتبرمي أهرع إليها فآكل أكلة هنيئة، طبق المرق الساخن، وسَلَطة الخضار، واللحم المشوي، والفاكهة. لا تنسى أن تنفحني مبلغا "محترما" أستطيع تدبر شئوني به، حتى تحين زيارتي التالية، بعد أسبوع أو أكثر. كلما نفد ما معي من نقود، أهرع إليها..
يعجبني وفاءها لأبيها وأخيها، اللذين توفيا في سنوات خلت. لا أعرف متى بالتحديد. يتمثل الوفاء في وضع صورة لجدي على الجدار داخل إطار مذهب، وثانية في إطار مماثل لعمي، رحمهما الله. لم يهتم والدي بوضع مثل هذه الصور في بيتنا المتواضع، ربما لا يملك ما يدفعه ثمنا للإطار المذهب.
عشت سني الشباب مترددا على عمتي، واعتمدت عليها فيما لا يستطيع والدي توفيره لي. أحببت بنت عمتي، إلا أنه حب في السر لم أكاشف به أسرتي، التي لا تبارك مثل هذه الزيجة، ولا أملك البوح بمشاعري لبنت عمتي، لفقري وغناها! عانيت الإحباط من الفارق الاجتماعي الذي يقف حائلا بيني وبينها. تراود مخيلتي أفكار ضبابية عن اقتراني بها، مالكا لثروتها. أصبحت حالي تصعب على الكافر، أفكر فيها وأتجاهلها، وأضع بيني وبينها حاجزا وهميا.
كنت قريبا من عمتي.. التي تحكي لي مشاكلها، وكيف تتصرف في تربية الأولاد. هذا القرب شجعني على زيارتها في فترات متقاربة، وألبي طلباتها، وأشتري لها كل ما تحتاجه. إلا أني أواجه متاعب في الاقتراب من ابنة عمتي "الدلوعة"، وأصطدم بالفارق الطبقي بيننا.. كلما اقتربت منها، أحسست بنار تلسعني..
أنهيتُ دراستي الجامعية، والتحقت بعمل.. شغلت بالأعباء الجديدة، فما عدت أزور عمتي إلا كل شهر أو شهرين.. خطبت "الدلوعة" لشاب غريب عن العائلة، فقررت تمزيق صورة "الدلوعة" التي تعيش في خيالي..
شغلتني الحياة.. العمل ومواعيده الصارمة، ومشروع الزواج الذي تخايلني صورته من حين لآخر، إلى أن وفقني الله وعقدت قراني على زميلتي في العمل.. ما عدت أزور عمتي إلا كل عام، مرة أو مرتين. توفي زوجها، فزادت أعباؤها في تربية البنات الخمس والابن الوحيد. من سنة لأخرى تأتيني دعوتها لحضور عقد قران إحدى بناتها.. انشغل أبي أيضا بتزويج أخواتي ـ خمس بنات أيضا ـ ولكن شتان الفرق بين الأفراح التي نقيمها لأخواتي، وتلك التي تقام لبنات عمتي..
أدبر شئون زواجي بنفسي، وأساعد والدي بمساهمات قليلة. وبعد الزواج، زادت الأعباء. لم يعد أبي في حاجة لمساعدتي، فقد زوّج كل البنات، ويتقاضى معاشا يكفيه هو وأمي.. كان أبي يحتاج إلى من يسأل عنه ويزوره. يفرح لزيارتي. في جعبته حكايات كثيرة عما يصادفه في معيشته، وعن أحوال أخواتي في بيوت أزواجهن. بدأ وضعنا الاجتماعي يتحسن تدريجيا.. أما عمتي، فقد قل دخلها بعد وفاة زوجها التاجر الكبير. لم يحرص ابنها الوحيد على مواصلة أعمال التجارة الواسعة التي تركها أبوه.
كلما زرتها، أرنو إلى صورة جدي وعمي، رحمهما الله. وفاء العمة للراحليْن من أرق ما عرفت. لم يتزحزح البروازان عن مكانهما في الصالة الواسعة. تتوسطهما آيات من سورة يس. كلما رنوت إليهما، أتطهر من آفات كثيرة، وأكبر صورة عمتي في فؤادي. يا لها من سيدة عظيمة. تحاول أن تسأل عن والدي وصحته وأحواله. دائما تزور مقابر العائلة، تتصدق وتتلو القرآن، وتنفح اللحاد ما تجود به من مال وفطائر وفاكهة وبلح.. وحين قلت مواردها ظلت تدخر مبلغا للصدقة ومقررات الزيارة. وإن اقتطعت من قوت يومها. شجعتني على زيارة المقابر معها. أما أولادها فلم يطاوعها أحد في تلك الزيارات. في عنقي دين كبير لعمتي، أسدده بلمسة وفاء تسعدها. ولا مانع من تخفيف العبء المالي لهذه الزيارات عن كاهلها. لكنها ما زالت تعطي وتتصدق من حر مالها، وإن حرمت نفسها من طعام وعلاج.
إني أكبر عمتي إكبارا لا يعادله شيء في الدنيا. أنا أعلم بحالها ومروءتها. نلت في الصغر الكثير من برها وعطفها، في وقت كنت في أمس الحاجة إلى من يمد لي يد العون.
زيجة آخر بناتها كلفتها الكثير، إن لم يكن كل ما ادخرته. اتفق عريس ابنتها على السكن معها في الشقة الكبيرة. صرفت المال الكثير من لحم الحي ـ كما تقول ـ لتؤثث البيت الجديد. لم يدفع العريس إلا القليل. انزوت في حجرة صغيرة من الحجرات الخمس الواسعة، راضية بما قسم الله لها. ولما دهس زوج ابنتها الشقة، حرصت أن ترفع البروازين وتضعهما في حجرتها الصغيرة. حزنت لحالها.. النظرة الكابية لعينيها تعكس عمق القهر الذي أحسته، رغم أنها تقيم في بيتها، إلا أن إحساسا تولد لديها بأن البيت انتزع منها، وعاشت فيه كالغريبة. ليست صاحبة بيت كما تعودت، انتزع منها الملْك والعالَم والذكريات الجميلة. لا يُطلب رأيها في شيء. تعمل على توفير الراحة للسكان الجدد. مالت ابنتها إلى زوجها، تعطيه حقا لا يملكه، ربما من قبيل الإبقاء عليه. في بداية الوضع الجديد، كانت الصالة قاسما مشتركا لهم.. إلا أن زوج ابنتها لا يحلو له مقام إلا في الصالة.. ليل نهار.. فأحست عمتي بالحرج حين تخرج من غرفتها لتعبر الصالة إلى المطبخ أو الحمام، فحرصت على تقليل نوبات خروجها. تتنهد وهي تبوح لي بأنها تتنصت على هذا الغريب ـ المسمى زوج ابنتها ـ حتى تعرف متى يترك الصالة لشأن من شئونه، فتهرع تعبرها إلى المطبخ أو الحمام، وتقضي حاجتها وتنهي شئونها في عجالة.. كثيرا ما تقع في المحظور، حين تعود فتجده اضطجع من جديد على كنبة الأنتريه، يشاهد التلفاز.. فتلقي عليه التحية وهي مرتبكة، وتدخل غرفتها! كم تتعذب، في وقت هي في حاجة إلى الراحة. لو بيدي الأمر لطوقت عنقها وجيدها بوسام عظيم..
مضت أيام العز.. مضت تلك الأيام الهنيئة التي كانت تنفق فيها عن سعة، وتغدق العطاء لكل من يقصد بابها من الفقراء والمحتاجين. ما قصدها امرئ وردته خائبا..
اليوم، تدهور حالها والكل لاه عنها. انفض السامر من حولها، وانطوت في غرفة ضيقة، لا يسأل عنها أحد، حتى أبناءها وزوج ابنتها الذي احتل الشقة الفخمة. اعتبر سكنها في الغرفة تفضلا وتكرما منه! ابنتها لا تلوم زوجها ولا تلطف من العنت الذي تشعر به أمها، خوفا من بطشه وسلاطة لسانه.
في أيامها الأخيرة، صارحتني بأنها ادخرت مبلغا من المال لدي ابنها، في إشارة منها إلى أنها ستموت مستورة ولن تكلف أحدا قرشا واحدا! وأعطتني وثائق ومستندات تخص العائلة، أوصتني ـ بعد موت أبي ـ أن أحتفظ بها.. شهادات ميلاد ووفاة، قسائم زواج وطلاق، قوائم أثاث تخص بناتها، وأخريات من العائلة لا أعرفهن جيدا.. وصور تذكارية لناس أعرفهم وآخرين لا أعرفهم. اقتربت من عمتي أكثر. تعمدت أن أذهب إليها، وأطيل الجلوس.. كانت تفرح بي كثيرا. متعتها الوحيدة أن تحكي لي حكايات عن أحوال عائلتنا التي تشتت شملها، وجهودها كي تلم الشمل وتوصل ما انقطع.
وفي إحدى الزيارات، رفعت البروازين من مكانهما، وأعطتني إياهما، وأوصتني أن أضعهما في شقتي.. برواز لصورة جدي، وآخر لصورة عمي، رحمهما الله..
وكانت آخر زيارة لي، إذ ماتت بعدها بأيام قلائل. كأنها أحست بدنو الأجل. ذرفت عيناي دموعا حارة، تأثرا لحالها وإجلالا لشموخها. بذلت جهدا غير عادي مع ابن عمتي، حتى تشييعها إلى مثواها الأخير، وتقبل العزاء. إلا أن زوج صغرى بنات عمتي، فال لأخيها على مسمع مني، ونحن عائدين من المقابر:
ـ اجمع عفش وكراكيب أمك عندك.. حتى أدهن الغرفة وأستعملها..
قالت زوجته:
ـ أصل الشقة ضيقة علينا..
عملا بوصيتها، علقت البروازين في شقتي. نظر ولدي إليهما وهو يرنو إليهما. كان يضع اللمسات لشقته التي سيتزوج فيها بعد مرور أربعين يوما على وفاتها، طبقا للتقاليد.. قبل الموعد المحدد بأسبوع، ذهبت معه لأرى ما ينقص الشقة. أبديت بعض الملاحظات في أماكن وضع الأثاث، وما ينقصه من أدوات وأجهزة. طلبت منه الحرص على تركيب "كالون" متين للباب الخارجي. لفت نظري في الصالة حيث ثبّت على الجدار بروازين مذهبين، أحدهما لصورتي، والثاني لصورة جده، يتوسطهما برواز لآيات من سورة يس. بالله عليك يا ولدي.. كيف حصلت على هذه الصورة النادرة مكبَّرة ؟ نفدت هذه الصور من عندي. ابتسم ابني الذي فهمت منه أنه عرف اسم محل التصوير، المطبوع خلف الصورة.. وكانت مفاجأة أسعدتني. ربتّ على ظهره، شاكرا صنيعه. قلت وأنا أوسع ذراعي لأضمه إلى صدري:
ـ الله يرحم عمتك..
كان البروازان في مكانهما الصحيح..
هذه قصيرة؟
بانتظار البقية
خفقات قلب
08-26-2008, 04:44 PM
قصص جميلة بحق..بانتظار المزيد، إنما شخصيا أفضل الروايات والقصص القصيرة جدا على القصص القصيرة، دمت بخير
الله يعينني على هالجيل.. ما معه وقت يقرأ.. :) حاضر.. قصرنا القصص
عزام
محمد المحمودي
كان محمد المحمودي رجلا هرما، يعيش وحيدا في بيت صغير، فلا زوجة له ولا ولد و لم يكن له ما يفعله إثر إحالته إلى التقاعد . فما ان يقبل الصباح حتى يغادر البيت ، ويمشي في الشوارع وئيد الخطى، ويتوقف لحظات ليشتري جريدته المفضلة ، ثم يستأنف مشيه المتباطئ متجها إلى مقهى لا يفصله عن الشارع الصاخب إلا حائط من زجاج . وحين يبلغه ، يدلف إلى داخله و يقصد طاولة معينة تتيح له التفرج على الشارع ، ويجلس منتظرا دونما كلام النرجيلة وفنجان قهوة دون سكر. ثم يخرج من جيبه نظارة يضعها على عينيه ،ويستغرق في قراءة الجريدة، مدخنا النرجيلة، متطلعا بين الحين والحين إلى الشارع بعينين ذاهلتين.
وكلما جاع ، ينهض بتثاقل وأسف ، ويغادر المقهى إلى مطعم قريب، فيأكل بملل ، ثم يرجع سريعا إلى المقهى ليتابع قراءة الجريدة وتدخين النرجيلة واحتساء الشاي والقهوة والتفرج على الشارع ، حتى يعم ظلام الليل ، فيترك وقتئذ المقهى، ويذهب إلى بيته ،و يخلع ثيابه ، و يستلقي على سريره العريض ،ويستسلم توا لنوم عميق . وأحيانا كان يشاهد أمه في أثناء نومه ،وكانت تؤنبه بقسوة لأنه لم يتزوج ، وتعول مطالبة بطفل يقول لها:"يا جدتي اشتري لي بالونا". فيستيقظ من نومه مكتئبا و خجلا من رغبته في النحيب طويلا. وفي أحد الأيام ، كان جالسا في المقهى كعادته يقرأ الجريدة ويدخن النرجيلة ، فإذا باصابعه تفلت فجأة الجريدة،وتند عنه شهقة، ويتهاوى أرضا دون حراك . فاستدعي على عجل الطبيب الذي قرر بثقة انه قد مات . وعندئذ جاءت المعاول والرفوش تنفيذا لوصيته ، وحفرت حفرة تحت الطاولة التي اعتاد الجلوس إليه ثم حمل برفق وسجي في قاع الحفرة، أهيل فوقه تراب كثير فلم يحنق أو يتذمر إنما ابتسم فرحا بخلاصه من المشي في الشوارع والذهاب إلى البيت والمطعم . وأنصت بشغف لأحاديث رواد المقهى وقرقرة النراجيل وصيحات الجرسون ، ولكنه كان يشعر ليلا بالضجر والوحشة والخوف إذ يخوي المقهى ويقفل أبوابه .
وأتى يوم اقتحم فيه المقهى عدد من رجال الشرطة، واخرجوا محمد المحمودي من حفرته ، واقتادوه إلى أحد المخافر. وهناك قال له رئيس المخفر بصوت صارم : "نمي إلينا أنك تنتقد أعمال الحكومة وتهزأ بها وتسبها، وتزعم أن كل قوانينها لا تخدم إلا أصحاب البنايات والسيارات والبطون الكبيرة" .
فهتف محمد المحمودي مرتاعا مستنكرا : "أنا أسب الحكومة؟! أعوذ بالله ! أنا لست ممن يشربون من النبع ثم يبصقون فيه. ". اسأل عني . كنت موظفا مثاليا، و كنت أطيع الأوامر و القوانين أنفذها بدقة. اسأل عني. لم أسكر يوما، ولم أتحرش بامرأة، ولم أؤذ أحدا ، وكنت . . ."
فقاطعه رئيس المخفر قائلا: "ولكن التقارير الواردة ألينا بشأنك لا تكذب ،وأصحابها موضع ثقة كاملة".
ارتعد محمد المحمودي ،وقال بصوت متهدج :"أقسم بالله أني عشت حياتي كلها دون أن أتكلم يوما في السياسة، و لم اسب طوال عمري لا حكومة و لا حكاما".
قال رئيس المخفر: " ها ها.. من فمك أدينك . أنت قلت إنك لم تسب الحكومة، ولم تقل إنك مدحتها، أفلا تستحق في رأيك المديح ؟" . فحاول محمد المحمودي التكلم ، ولكن رئيس المخفر تابع قائلأ: "وحتى إذا كان ما تقوله صادقا؟، فهو أمر غريب جدا لان الناس جميعا تشوهوا وصاروا حاقدين موتورين ، يسبون الحكومة والحكام ، متناسين وجوب إطاعة أولى الأمر، وأن للسياسة أهلها" .
قال محمد المحمودى بصموت واهن : "هذا صحيح . الجميع يتحدثون في السياسة ولا يتركون مسؤولا في الدولة إلا يلصقون به أشنع الصفات ، أما أنا... " .
قال رئيس المخفر مقاطعا بصوت وديع متسائل : "وأنت في المقهى تسمع طبعا ما يقولون ،وتعرف أسماء الذين يتكلمون ؟".
هز محمد المحمودي رأسه بالإيجاب ، فابتسم رئيس المخفر، وفال . . "أنت كما يبدو رجل طيب ومواطن صالح . وأنا ارغب فعلا في مساعدتك كي تنجو من التهمة الموجهة إليك ، ولكن عليك أيضا أن تساعدني!" . قال محمد المحمودي بدهشة : "وكيف أساعدك! وأنا ميت ؟". فضحك رئيس المخفر ضحكة مرحه ثم قال : " الأمر بسيط جدا ومسل. اسمع . . . " . وأنصت محمد المحمودي لما قاله رئيس المخفر، ثم عاد بعد قليل إلى حفرته في المقهى وهو شديد الابتهاج ، فقد بات لديه ما يفعله ، ولم يعد يشعر بالوحشة والضجر والخوف حين يقفل المقهى ابوابه في منتصف الليل ، إذ كان يسارع آنذاك إلى كتابة ما سمعه من رواد المقهى،محاذرا النسيان .
lady hla
08-26-2008, 06:44 PM
.... السلام عليكم ....
... بدنا قصص طويلة ...
سلامي اليك
lady hla
القدس
صف العيش
استيقظت من النوم كالعادة على صياح أولاد حارتنا وهم يتبادلون الشتائم اليومية، وأصوات جمهور عم حسن يستعطفونه ويستجدونه أن يملأ قدورهم بالفول والسلاطات والذى منه وعلى الرغم من أن الرجل كان يقوم بكافة واجباته على أتم وجه في ملء الأطباق بسرعة ونشاط إلا أن مطالب الشعب لا تكف أبدا ..ربنا يكون في عونك يا عم حسن !
نهضت من السرير وأنا أقول عبارتي المأثورة " اصطبحنا وصبح الملك لله ".. غسلت وجهي واستعددت ليوم جديد افتتحه بطبق الفول المعتاد.. ولكني اكتشفت أن العِيش قد نفد من البيت أخذت خمسين قرشا من المحفظة، وانطلقت لفوري إلى الفرن قبل أن يجف بترول معدتي من بئــر-أقصد قِدْرِة- عم حسن.. ونظرا لأن شارعنا تتفجر فيه ينابيع الصرف الصحي معظم أوقات السنة فقد تعود أهل الحارة أن يسيروا كلاعبات الباليه على تلك الجزر الصخرية المتناثرة وسط أنهار المجاري.. وبفضل تلك الرياضة اليومية أصبحت أم فتحي "بتاعة الجرجير والبقدونس" أكثر رشاقة من لاعبات الأيروبكس ما إن وصلْتُ إلى الشط.. حتى أسرعتُ الخُطا مرة أخرى متخطيةً هؤلاء الصغار الذين تناثروا على جانبي الطريق في ثياب مبهدلة متسخة، وشَعْر "مقمل" ليشيعوا جوا من البؤس والجهل في الشارع..
لم أُعْطِ هذا الموقف المأساوي اليومي اهتماما، وواصلت طريقي وكأن شيئا لم يكن أخيرا وصلت إلى مُرادي، وانضممت إلى سور البشر العظيم الذي تراص أمام الفرن وأنا أشعر بخيبة أمل بأنني لن أتناول فطوري في موعده. وما إن وقفت حتى جاء رجل يحمل قفصا كبيرا قاصدا الفرن.. قلت الحمد لله "إني جيت قبل منه" وإلاًّ كان "لطعني أكثر ما هاتلطع". ولكنه خيب ظني حين لم يعط أحدا اهتماما، وتخطانا جميعا ليعطي القفص لبائع الخبز قائلا له: "خد ياد يا سيد.. هات بخمسة جنيه." فتناول سيد القفص أوصى بالانتهاء من هذا الطلب أولا أخذ الرجل القفص المكدس بالخبز المُحَسَّن، وما إن انصرف حتى جاءت امرأة من أهل المحسوبية والواسطة، وتخطتنا جميعا لتعطي "سيد بيه" قفصا مرفقا به 2.5 جنيه.. صمَّمت من ذلك الوقت أن أتعرف على سيد، وتمنيت أن يقبل صداقتي.. فإن سيدا في هذا الموقع الوظيفي الحساس يعد مركزا من مراكز القوى الشعبية وكان يقف خلفي رجل سمين للغاية.. يتحفني بأنفاسه الحارة اللاهثة التي ترتطم بمؤخرة رقبتي مع كل عملية زفير.. لتلهبها في هذا القيظ الشديد.. مضى الوقت طويلا ثقيلا دون أن نتحرك خطوة واحدة بسبب كثرة معارف سيد الذي كان يُنْهي مطالبهم أولاً بأول.. ومِنْ آن لآخر يظهر "بطل قومي" يطالب بحقوقنا في صرف حصص قُوتِنا القومي.. ولكنه لا يحظى بتأييد شعبي من أحد فينظر إليه سيد نظرة ساخرة يكتنفها الغيظ وكأنما يقول له إتْلَم بقه يا سي جيفارا؛ لَحْسَن أخلّي مصيرك زي مصيره.. طال وقوفنا أمام الفرن ونحن كما نحن بلا حراك، وكأننا تماثيل متقنة الصنع قد تراصت وراء بعضها، وبدأت الغربان تحوم فوق رؤوسنا تستطلع الأمر.. حاولت أن أعطي الموقف شيئا من الحياة فنظرت خلفي استعطف هذا الشخص السمين الذي يقف خلفي أن يرحمني من سياط أنفاسه التي "عَلِّمت" (لا مؤاخذة يا جماعة!) على "قفايا".. ففوجئت به يحاول النظر من فوق كتفي يستطلع أخبار الفرن من الداخل.. وقال بصوت رفيع للغاية خرج من حنجرة غالبا ما ضاقت بفعل تراكم اللحم والشحم حولها: "همَّ بيعملوا إيه جوه؟".. وكنت حينما أسمع تلك العبارة أحاول أن أختلس النظر مرة أخرى إلى الرجل، وكأنما هو يحاول أن يبرر تطفل أنفاسه على "قفـ.." (بلاش!)، على مؤخرة رقبتي، فيقول دون أن يحول نظره ناحيتي: همّ بيعملوا إيه جوه؟ نظرا لذلك الفراغ الهائل الذي كنا نعانيه من طول الانتظار بدأ نوع من العلاقات الاجتماعية يربط بين أعضاء الطابور.. وكلنا يعلم ما تتمخض عنه العلاقات البشرية من خلاف وعراك، فنشبت خناقة كبيرة بين اثنين خرجا من الطابور.. فتقدمت خطوتين إلى الأمام ولكن سرعان ما تصالحا وعادا إلى موقعهما سالميْن وسط جمهرة من محبي الصلح، فعدت أربع خطوات إلى الوراء لأرتطم بالرجل السمين الذي كان يقف خلفي فسقط على الأرض دفعة واحدة وكالسلحفاة نهض بصعوبة مرة أخرى على قدميه، وقال بصوت عال جاء حادا كالصفير: "الفرن بيطَلّع عيش كل ساعة ليه؟ وكمان الولد اللي بيبيع عَمَّال يدِّي لقرايبه وأصحابه العيش اللي بيخرج ومش راضي يمشي بالدور المفروض أن توزيع الخبز الحكومي المدعم يتم بإشراف من وزارة الداخلية.. لازم يبقى فيه عسكري ولا اتنين يكونوا متواجدين في الفرن باستمرار، ويكونوا رقباء على بيع العيش حسب الدور بحيث لو حصل أي تقاعس منهم نشتكيهم في القسم اللي تابعين له.. ولا إيه؟ لم يعَلِّق أحد على تذمر الرجل سوى سيد الذي صاح غاضبا "مش عاجبك روح فرن تاني !" بدأت نظرات الحب والإعجاب تتراشق بين طابور الرجال وطابور النساء ونتج عن ذلك نتيجة اجتماعية أخرى تمثلت في عقد قران شاب على فتاة وكنت أنا واحدا من الشهود الذين وقعوا على العقد.. ولا أذكر كم مضى من الوقت حتى وصلت لأول الصف.. ولكن كل ما لفت نظري أن الخلاف قد دب بين العروسين ووقع الطلاق بحجة أن الزوج قرف من عيشة مراته !!!!!!!
أخرجت النقود من جيبي وما كدت أعطيها للبائع حتى سمعت ارتطاما قويا بالأرض، فنظرت خلفي لأجد الرجل السمين ملقى بلا حراك.. في المستشفى عرفت من التقرير الطبي أن السبب هبوط حاد في الدورة الدموية بسبب كثرة الوقوف، كاد أن يودي بحياة المريض الذي كان يعاني من السمنة المفرطة.. بعد أن اطمأننت على حالة الرجل ذهبت لشراء الخبز الذي سوف أتعشى به.. وعدت أدراجي مرة لأنضم لصفوف الشعب المصري.. أؤدي دوري القومي في شراء العيش مثلي مثل أي مواطن عادي.. بعد أن ضاعت فرصتي الماسية في الوصول لأول الطابور وكان يقف أمامي رجل فارع الطول.. حاولت أن أستطلع الأمر من فوق كتفيه.. فشعر بأنفاسي الفضولية تناوشه.. فرمقني بنظرة جانبية وكأنما يحذرني.. ووجدت نفسي أقول دون أن أحول نظري إليه "همَّ بيعملوا إيه جوه؟
من هناك
09-29-2008, 08:22 PM
هل الأحرف ملتصقة او ان عيناي تتألمان بسبب الجوع؟
مش فاضي فكهم :)
شوف شو قصة المنتدى تبعكم
المشكلة منو لأنو عندي تمام وبغير مواقع تمام
لو مقال ديني كنت فكيتهم
بش مشان قصة
مش محرزة