سـمـاح
06-18-2008, 05:26 AM
حبيب معلوف
يعتبر مفهوم «التنمية المستدامة»، من اكثر المفاهيم تداولا في العالم اليوم، كمفهوم سحري، يوفق بين متطلبات التنمية وضرورة حماية البيئة.
ما من دولة في العالم، وما من برنامج للامم المتحدة، الا ويطرح هذا المفهوم، الذي بات يعتبر «استراتيجيا»، ويفترض تبنيه في اي نظام.
بالرغم من هذه الشهرة العالمية للمفهوم، ولاسيما عند تيارات واحزاب الخضر والمنظمات غير الحكومية، وتحوله الى اسطورة، وصلاة يفترض تلاوتها صباحا ومساء... الا انه يحمل في نفسه تناقضا داخليا، يجعله عديم الجدوى.
ففي التنمية المستدامة تناقض مستدام. لان التنمية ، بما هي، في اصلها النباتي، تعتمد على زيادة وسرعة نمو الانتاج، لا يمكن ان تكون مستدامة، كون الموارد نفسها محدودة.
ولعل احد أهم مشكلات العالم اليوم، هي في فلسفة «التنمية» القائمة على الزيادة والسرعة غير المحدودة. وما اضافة كلمة «مستدامة» اليها، وما اضافة هذا التعبير المخادع اليها، سوى اعتراف بالمشاكل الكبرى التي تسببت بها، واختراع الاوهام لحلها.
المشكلة في الاصل، هي في مفهوم «التنمية»، الذي اعتبر منذ بدء استخدامه، منذ 50 عاما تقريبا، «المفهوم المنقذ»، تماما كما اعتبر مفهوم «الاشتراكية» منذ 150 عاما، كأمل الشعوب المقهورة (البروليتارية تحديدا).
اعتبار «التنمية» كمفهوم منقذ من الفقر والعوز، كان يقوم على الاعتقاد ان زيادة الانتاج هي مفتاح الرفاهية، ومن ثم السلام، في العالم. الا ان احدا من منتجي ومروجي المفهوم لم يأخذ بالاعتبار، انعكاسات هذه «الزيادة».
ولكن هناك الكثير من المجتمعات التي عاشت في انسجام وطمأنينة، لم تعرف مفهوم التنمية على الاطلاق.
يؤكد الكاتب الفرنسي سيرج لاتوش في كتابه عن «تحديات التنمية»، ان في العديد من الحضارات (وربما جميعها)، وقبل التواصل مع الغرب، لم يكن احد يتكلم عن التنمية. وان ترجمة هذا المفهوم، وخصوصا في اللغات الافريقية، اوقعت الخبراء في حيرة كبيرة. فسكان غينيا الاستوائية (البوبي) يستعملون عبارة تعني النمو والموت على السواء. والراونديون يربطون التنمية بفعل مشى او انتقل من دون تحديد في الاتجاه. والكاميرونيون يربطون التنمية بـ«حلم الابيض»...الخ
ويستشهد لاتوش بصاحب كتاب «التطور الثقافي والتنمية»، جيلبيرت ريست، الذي يشرح غياب مفهوم التنمية الغربي عن هذه المجتمعات بالقول: «انها تؤشر بكل بساطة على ان مجتمعات اخرى لا ترى في ان انتاجها يرتبط بكمية المعرفة والخيرات التي تجعل مستقبلهم افضل من ماضيهم». وهو يلاحظ ايضا ان القيم التي ترتكز عليها التنمية، ولاسيما «التطور»،ترتبط بالتاريخ الغربي ، وقد لا تعني شيئا لدى المجتمعات الاخرى.
كان لنا في لبنان (والمنطقة المتوسطية عموما) تراث شبيه. كان لنا طريقة حياة منسجمة ومتلائمة مع محيطها البيئي. عاش اجدادنا على معتقدات مفادها ان السعادة تساوي القناعة، وان «القناعة كنز لا يفنى». ولم يعرفوا فكرة التنمية ولا طمحوا في زيادة، الا خوفا من جوع، او مصيبة. نوّعوا في زراعاتهم ومنتوجاتهم وعرفوا كيفية التعايش مع «غدرات الزمن»، حين تاتي عاصفة او سيل او جفاف او موجة صقيع او برد...الخ
لم يطلبوا السرعة في الانتاج ولا استباق او تسبيق المواسم وتغييرها، «فمن يطلب شيئا في غير اوانه يعاقب بحرمانه».
اقنعوا انفسهم اذا ما قاسمتهم العصافير والديدان غلالهم بالقول «يلي ما بيروح منو ما بيبرك». اي كلما ذهب بعض الغلال هدرا، ظهرت اهمية ما يبقى منها وكفت. وما كانوا بحاجة للتالي للمبيدات الكيميائية لمكافحة الحشرات وزيادة الإنتاج.
الأكثر والأكبر، ما كان يعني الافضل عندهم. والنوعية اهم من الكمية. لا بل كانوا يتباهون بالضيان اكثر مما يتباهون بالجديد.
اتخيل اجدادنا يضحكون لو سمعوا بمفهوم «التنمية المستدامة». فهم كانوا يعتقدون بضرورة المحافظة على استمرارية الموارد نفسها دون انتظار حتى مردودها المباشر والسريع والزائد، كما نفهم التنمية اليوم. وهذا ما يفسر تعلقهم بزراعة اشجار مثل الزيتون والتين والصنوبر، التي لا تثمر الا بعد سنوات طويلة من زراعتها والتي يعرفون مسبقا اثناء زراعتها، انهم لن يعيشوا لياكلوا من ثمارها، اخذين بالاعتبار حياة ومعيشة الاجيال اللاحقة... تماما كما كان اجدادهم يفعلون. وهم يقولون: «هم زرعوا (الاجداد) فاكلنا، ونحن نزرع فياكلون (الابناء والاحفاد)».
اجدادنا اذا، حسب التراث الشعبي الذي وصلنا، والثقافة الشفهية التي تم تدوينها، عرفوا مفهوم الاستدامة والاستمرار وقيم الكفاية (فلاح مكفي سلطان مخفي) والدراية ونظام «المونة» الذي يعني الحفظ والاستدراك... وقد عاشوا بشكل منسجم مع محيطهم البيئي وبشكل يناقض كل القيم والمفاهيم الغربية المسيطرة اليوم مثل التنمية والتقدم والتطور والاستهلاك...
يعتبر مفهوم «التنمية المستدامة»، من اكثر المفاهيم تداولا في العالم اليوم، كمفهوم سحري، يوفق بين متطلبات التنمية وضرورة حماية البيئة.
ما من دولة في العالم، وما من برنامج للامم المتحدة، الا ويطرح هذا المفهوم، الذي بات يعتبر «استراتيجيا»، ويفترض تبنيه في اي نظام.
بالرغم من هذه الشهرة العالمية للمفهوم، ولاسيما عند تيارات واحزاب الخضر والمنظمات غير الحكومية، وتحوله الى اسطورة، وصلاة يفترض تلاوتها صباحا ومساء... الا انه يحمل في نفسه تناقضا داخليا، يجعله عديم الجدوى.
ففي التنمية المستدامة تناقض مستدام. لان التنمية ، بما هي، في اصلها النباتي، تعتمد على زيادة وسرعة نمو الانتاج، لا يمكن ان تكون مستدامة، كون الموارد نفسها محدودة.
ولعل احد أهم مشكلات العالم اليوم، هي في فلسفة «التنمية» القائمة على الزيادة والسرعة غير المحدودة. وما اضافة كلمة «مستدامة» اليها، وما اضافة هذا التعبير المخادع اليها، سوى اعتراف بالمشاكل الكبرى التي تسببت بها، واختراع الاوهام لحلها.
المشكلة في الاصل، هي في مفهوم «التنمية»، الذي اعتبر منذ بدء استخدامه، منذ 50 عاما تقريبا، «المفهوم المنقذ»، تماما كما اعتبر مفهوم «الاشتراكية» منذ 150 عاما، كأمل الشعوب المقهورة (البروليتارية تحديدا).
اعتبار «التنمية» كمفهوم منقذ من الفقر والعوز، كان يقوم على الاعتقاد ان زيادة الانتاج هي مفتاح الرفاهية، ومن ثم السلام، في العالم. الا ان احدا من منتجي ومروجي المفهوم لم يأخذ بالاعتبار، انعكاسات هذه «الزيادة».
ولكن هناك الكثير من المجتمعات التي عاشت في انسجام وطمأنينة، لم تعرف مفهوم التنمية على الاطلاق.
يؤكد الكاتب الفرنسي سيرج لاتوش في كتابه عن «تحديات التنمية»، ان في العديد من الحضارات (وربما جميعها)، وقبل التواصل مع الغرب، لم يكن احد يتكلم عن التنمية. وان ترجمة هذا المفهوم، وخصوصا في اللغات الافريقية، اوقعت الخبراء في حيرة كبيرة. فسكان غينيا الاستوائية (البوبي) يستعملون عبارة تعني النمو والموت على السواء. والراونديون يربطون التنمية بفعل مشى او انتقل من دون تحديد في الاتجاه. والكاميرونيون يربطون التنمية بـ«حلم الابيض»...الخ
ويستشهد لاتوش بصاحب كتاب «التطور الثقافي والتنمية»، جيلبيرت ريست، الذي يشرح غياب مفهوم التنمية الغربي عن هذه المجتمعات بالقول: «انها تؤشر بكل بساطة على ان مجتمعات اخرى لا ترى في ان انتاجها يرتبط بكمية المعرفة والخيرات التي تجعل مستقبلهم افضل من ماضيهم». وهو يلاحظ ايضا ان القيم التي ترتكز عليها التنمية، ولاسيما «التطور»،ترتبط بالتاريخ الغربي ، وقد لا تعني شيئا لدى المجتمعات الاخرى.
كان لنا في لبنان (والمنطقة المتوسطية عموما) تراث شبيه. كان لنا طريقة حياة منسجمة ومتلائمة مع محيطها البيئي. عاش اجدادنا على معتقدات مفادها ان السعادة تساوي القناعة، وان «القناعة كنز لا يفنى». ولم يعرفوا فكرة التنمية ولا طمحوا في زيادة، الا خوفا من جوع، او مصيبة. نوّعوا في زراعاتهم ومنتوجاتهم وعرفوا كيفية التعايش مع «غدرات الزمن»، حين تاتي عاصفة او سيل او جفاف او موجة صقيع او برد...الخ
لم يطلبوا السرعة في الانتاج ولا استباق او تسبيق المواسم وتغييرها، «فمن يطلب شيئا في غير اوانه يعاقب بحرمانه».
اقنعوا انفسهم اذا ما قاسمتهم العصافير والديدان غلالهم بالقول «يلي ما بيروح منو ما بيبرك». اي كلما ذهب بعض الغلال هدرا، ظهرت اهمية ما يبقى منها وكفت. وما كانوا بحاجة للتالي للمبيدات الكيميائية لمكافحة الحشرات وزيادة الإنتاج.
الأكثر والأكبر، ما كان يعني الافضل عندهم. والنوعية اهم من الكمية. لا بل كانوا يتباهون بالضيان اكثر مما يتباهون بالجديد.
اتخيل اجدادنا يضحكون لو سمعوا بمفهوم «التنمية المستدامة». فهم كانوا يعتقدون بضرورة المحافظة على استمرارية الموارد نفسها دون انتظار حتى مردودها المباشر والسريع والزائد، كما نفهم التنمية اليوم. وهذا ما يفسر تعلقهم بزراعة اشجار مثل الزيتون والتين والصنوبر، التي لا تثمر الا بعد سنوات طويلة من زراعتها والتي يعرفون مسبقا اثناء زراعتها، انهم لن يعيشوا لياكلوا من ثمارها، اخذين بالاعتبار حياة ومعيشة الاجيال اللاحقة... تماما كما كان اجدادهم يفعلون. وهم يقولون: «هم زرعوا (الاجداد) فاكلنا، ونحن نزرع فياكلون (الابناء والاحفاد)».
اجدادنا اذا، حسب التراث الشعبي الذي وصلنا، والثقافة الشفهية التي تم تدوينها، عرفوا مفهوم الاستدامة والاستمرار وقيم الكفاية (فلاح مكفي سلطان مخفي) والدراية ونظام «المونة» الذي يعني الحفظ والاستدراك... وقد عاشوا بشكل منسجم مع محيطهم البيئي وبشكل يناقض كل القيم والمفاهيم الغربية المسيطرة اليوم مثل التنمية والتقدم والتطور والاستهلاك...