النصر قادم
10-09-2008, 11:41 PM
حزب التحرير يمتلك الرؤية لمواجهة أزمة العالم الاقتصادية
بقلم : الدكتور ماهر الجعبري
التاريخ: 05 / 10 / 2008 الساعة : 20:03
تجلّت ذروة الإعصار المالي في العالم عندما انفجرت أزمة الرهن العقاري في أمريكا، إلا أن ذلك لا يعني أن سبب المشكلة ينحصر في أزمة الرهن العقاري، بل إن جذور المسألة تعود إلى عقود طويلة وترتبط بتشريعات النظام الاقتصادي الرأسمالي، بحيث يمكن تشبيه كشف أزمة الرهن العقاري لانهيار النظام الاقتصادي بانفجار ورم سرطاني كان يسري في العالم دون أن يدرك العالم خطورته، فاستمر بالانتفاخ إلى أن انفجر وسال منه القيح فأزكم أنوف البشر وأدركوا الخطر.
وكان الربا هو أبرز أسباب أزمة الرهن العقاري، الذي أدى إلى عجز الناس عن تسديد القروض التي اشتروا بها منازلهم، فلجأوا للبيع، وازدادت عروض البيوت المعروضة للبيع حتى بلغت ثلاثة ملايين، وبرزت مشكلة توفر السيولة للبنوك لعدم استرداد الديون المترتبة على العقارات، فانفجرت الأزمة. إلا أن حصر التفكير في مشكلة الربا لوحدها لا يحل الأزمة، ولا بد من تشخيص كافة أبعادها وفهم العناصر الفعالة والحيوية المضادة في النظان البديل: وهذه ما تعرضه باختصار هذه المقالة علّها تحرك أذهان الاقتصاديين إلى البحث الجاد في تفاصيل الأزمة وتفاصيل العلاج الإقتصادي الإسلامي.
فقد ظهر في القرن الماضي نظام نقدي ورقي غير مربوط بالذهب والفضة لم تعرفه البشرية في تاريخها الطويل، وهو نظام فاسد كما تثبت أزمات السيولة العالمية وتذبذات أسعار الصرف الخيالية، وكان هذا النظام قد بدأ يتشكل عندما قررت أمريكا عدم اعتماد التغطية الكاملة من الذهب للعملة وصارت قيمة الدولار ترتبط بقوة السياسة لا بالرصيد من الذهب كما كان عليه الحال بداية القرن الماضي.
وكانت الفردية التي يقوم عليها المبدأ الرأسمالي قد حوّلت الإنسان إلى وحش شهواني: فأخذ يستحوذ على الأشياء بغريزة حب التملك دون ضوابط تحدد الملكية، وكان ذلك نقيضا للاشتراكية التي كانت قد حصرت الملكية في الدولة. وهذا أدى إلى تمركز رأس المال في جيوب محدودة في العالم، ومرة أخرى صارت أزمات تلك الجيوب تتحول إلى أزمات عالمية لأن نسبة صغيرة من البشر في العالم تمتلك وتتصرف بغالبية الثروة التي ينتجها العالم. وخصوصا أن المبدأ الرأسمالي يعرّف المسألة الإقتصادية بزيادة الثروة وتكثيرها دون النظر لمن يملك تلك الثروة وكيف يملكها ويتصرف بها؟
وإضافة لذلك، فإن التنافس على الثراء، في ظل التقدّم المدني الذي صنعه الغرب (وحق له أن يفخر بذلك التقدم التكنولوجي) قد جعله يحول قيمة الإنتاج العقلي إلى ممتلكات فكرية يحتكرها أصحاب الإبداعات أو الجهات التي تسخرّهم، فكان تشريع الملكية الفكرية وراء انتفاخ العديد من الشركات المعلوماتية الكونية وتحولها إلى بالونات من الدولارات بشكل متزايد، حتى أصبحت قاعدة من البيانات وجمل تربط مدخلاتها ومخرجاتها تساوي ملايين الدولارات، وتباع للعديد من الجهات مرات ومرات دون أن تمتلكها تلك الجهات التي تدفع.
وخلال القرن الماضي اشتعل النفط طاقة هائلة تدير عجلة ذلك التقدم، ومرة أخرى صب العائد من ذلك النفط ومن مخرجات تلك الطاقة إلى الجيوب المحتكرة التي صاغت حركة الاقتصاد في مجال النفط والطاقة منذ بدايات القرن الماضي واستمرت في احتكاره، وبالتالي استمرت في الاستحواذ على جل العائد من ذلك المجال، فخصصت بذلك ما تمتلكه الدول، وترسخت تشريعات الملكية الفردية في كل اتجاه.
وكان الاستعمار العسكري هو عنوان القرن الماضي والذي سبقه، وكانت الحربين العالمتين قد حفزتا الصناعات الحربية، وكان الصراع بين المعسكرات والقوى الدولية قد أدى إلى سباق التسلح، ومنذ منتصف القرن الماضي ظنّت الناس أن الحروب الكبيرة قد انتهت، وفجأة انهار الاتحاد السوفياتي، وصارت شركات السلاح بحاجة إلى تنشيط الطلب على منتجاتها، فإذ بأمريكا تعلن حربا كبيرة على أفغانستان وعلى العراق، بعدما بدأ السلاح يتكدس في مخازن الشركات المصنعة له، وهكذا نجح أرباب السياسة وأصحاب شركات السلاح في تحريك سوق المنتجات الحربية، وراجت من جديد الصناعات الحربية، وتبلورت مفاهيم جديدة للاستعمار بحجة نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، ولكن ذلك كان على حساب ضخ الأموال من الدول إلى الشركات وإلى الجيوب المحدودة، أي أن ذلك ساهم في تركّز الثروة في أيد محدودة وفي تحميل الدول ديونا باهظة من تكاليف تلك الحروب.
وتطورت فكرة الأسواق المالية، وصارت التجارة على الورق بدون القبض الفعلي للسلع، فصار التلاعب بالعرض والطلب يجري على شاشات رقمية وليس في أسواق البضائع الفعلية، وظهرت المضاربات كممارسات تجارية أدت إلى غلاء فاحش في الأسعار، وصار التشارك على أساس رأس المال بين أطراف لا تتلاقي ولا تتعاقد على الجهد والمال، وظهرت فكرة الشركات المساهمة التي تتذبذب أسهمها صعودا ونزولا بين دقيقة وأخرى، وصار بالإمكان إصدار تقارير مغلوطة عن أرباح تلك الشركات، وصار بالإمكان تسخير المحللين الماليين لإصدار تنبّؤات خاطئة حول الصعود المالي للشركات، فضاعت أموال الناس البسطاء الذين انجرّوا إلى أسواق المال، ومرة أخرى صبت تلك الأموال في جيوب من أسماهم الخاسرون "بالحيتان"، وتكرّرت مشاهد الإفلاس للمقامرين في الأسواق المالية.
طبعا هنالك عوامل أخرى تتعلق بانعدام الأخلافيات وضوابط السلوك الفردي التي جعلت مدراء المؤسسات المالية يحوّلون مبالغ باهظة إلى جيوبهم الخاصة من خلال الرواتب الخيالية والحوافز المالية التي شهد عليها أرباب التحليلات الاقتصادية.
ومن هنا يمكن عنونة النظام الاقتصادي الغربي بأنه حصر المسألة الإقتصادية بزيادة الثروة (الإنتاج) وأدى إلى تركيزها لدى أثرياء محدودين. ويمكن استخراج مجموعة من المعالم التي تحدد الأزمة الاقتصادية العالمية، بعضها يتعلّق بالتشريعات وبعضها يتعلق بالسلوكات والممارسات الرأسمالية القائمة على الفردية والجشع. وهي:
1. انتشار الربا وتشريعه
2. ظهور نظام النقد الورقي غير المربوط بالذهب والفضة
3. هيمنة الملكية الفردية على كافة أنواع الملكيات
4. انتشار وتشريع فكرة الملكية الفكرية للإبداعات والاختراعات
5. تحويل النفط والطاقة إلى ملكية خاصة وتشريع امتيازات الشركات
6. انتشار فكرة الخصخصة في العديد من القطاعات الاقتصادية
7. تسخير المبادئ والسياسة والحروب لخدمة الشركات المنتجة للسلاح
8. سيطرة فكرة المنفعة على السلوك الفردي وانتشار الجشع وانعدام الضوابط المعنوية (مثل الأخلاق)
9. ترسيخ تشريعات البيوع الوهمية (بدون تقابض) وتشريع أنواع من الشركات الباطلة.
10. وتعريف المسألة الأقتصادية بزيادة الانتاج والثروة
وهنا تأتي المقارنة السريعة مع معالم الرؤية الاقتصادية لحزب التحرير التي استمدها من الإسلام، لكل نقطة من النقاط أعلاه، وهي مجموعة من الأحكام الشرعية التي شرّعها رب البشر وهو أعلم بما كان وبما سيكون، ولن يتسّع المجال لعرض أدلتها الشرعية وشروحاتها، ولكن ذلك كلّه متوفر في أدبيات حزب التحرير، وخصوصا في كتاب النظام الإقتصادي في الإسلام:
1. حرمة الربا قطعية في الإسلام، وأزمة الرهن العقاري تجسد عمليا بطلان محاولات الالتفاف على الأحكام الشرعية وتشريع "البنوك الإسلامية" وإباحة قروض شراء البيوت للمسلمين في الغرب التي أفتى بها البعض.
2. اعتبار نظام الذهب والفضة النظام النقدي الوحيد في الإسلام، وعودة هذه المعادن إلى نقد ثابت بدل أن تكون سلعة عرضة لتغيّر الأسعار، وهو ما يؤدي إلى استقرار النقد.
3. تقسيم الملكيات إلى ملكية خاصة وعامة وملكيّة دولة، مما يقاوم الاحتكار ويوزع الثروات.
4. عدم مشروعية الملكية الفكرية للإبداعات والاختراعات، مما يقاوم احتكار المعرفة المنتجة، ويضع حدا للزيادة الخيالية لثروات الشركات المعلوماتية.
5.اعتبار النفط وكافة متعلقات الطاقة ملكية عامة لا يجوز حصرها في الأشخاص والشركات
6. بطلان خصخصة الملكيات العامة وملكيات الدولة، والحفاظ على حقوق الناس في ثروات تنتجها الدولة وتدير عمليات تنميتها.
7. جعل الصناعة الحربية تابعة لأمير الجهاد وبالتالي للدولة، وعدم فتح المجال لوجود شركات خاصة لتصنيع السلاح، وحصر الحروب في مقاومة الاحتلال ونشر رسالة الإسلام، مما يقضي على وجود "شركات الحروب" التي صارت تبتلع الدول في ميزانياتها.
8. تحريم البيوع التي لا يتم فيها التقابض، وبالتالي زوال فكرة المضاربات والوصول إلى استقرار أسعار السلع. وأيضا تحديد أنواع الشركات التي حصرها الإسلام في وجوب وجود الجهد كطرف رئيسي مشارك، وعدم إقرار مشروعية شركات الأموال لوحدها دون الجهد، والتي فتحت المجال للمقامرة بأسواق المال.
9. سيطرة روح تقوى الله على سلوكات الأفراد، وتنفيذهم لتشريعات النظام الاقتصادي الإسلامي على أساس الفروض والواجبات والمندوبات سعيا لنيل رضوان الله، وبالتالي وجود رقابة داخلية على سلوكات الأفراد.
10.تعريف المسألة الأقتصادية بأنها توزيع الثروة وليس إنتاجها، وتشريع ما يؤدي إلى توزيع الثروة وعدم تمركزها في أيد محدودة.
هذه نقاط عشرة مستمدة من الإسلام، بلورها حزب التحرير ضمن رؤيته الإقتصادية، وخصصت حزب التحرير في العنوان (مع أنها رؤية إسلامية عامة) لأن بعض الرؤى الاقتصادية المعاصرة التي انتسبت إلى تشريعات الإسلام قد أغفلت بعضها وخالفت بعضها الآخر، ولذلك فهي رؤية إسلامية تميّز بها حزب التحرير. وسرّ تميّزه يعود إلى منهجّية الاستنباط الصحيحة المستندة إلى النصوص الشرعية دون التأثر بإفرازات النظام الرأسمالي، بينما انزلق بعض الكتّاب والباحثين في هذا المجال إلى محاولات أسلمة النظريات الإقتصادية الرأسمالية انبهارا بها وتقليدا للغرب الغالب، وصار البحث التشريعي والاجتهاد عندهم قائما على وضع النتيجة قبل الأدلة ومن ثم البحث عن تفسيرات للنصوص التشريعية توافق تلك النتيجة التي وضعوها، وضاع تميّز الإسلام بعدما انحصر في مخرجات الرأسمالية.
وحزب التحرير سيعيد صياغة النظام الإقتصادي في دولة الخلافة القادمة على أساسها، ونظامه القادم سينعكس على كافة مناطق العالم في زمن ذابت فيه الحدود والفواصل التي كانت تقيّد تفاعلات المجتمعات والكيانات في التاريخ.
وحقيق على منظري الاقتصاد من المسلمين أن تكون هذه الأزمة العالمية دافعا لهم للغوص في تفاصيل هذه النقاط، وإبرازها، وطرح النظام الإقتصادي في العالم. ومن الأكيد أن بعض الغربيين ومثقفيهم يطرح بعض هذه المعالم منهم على سبيل المثال لا الحصر ما طرحه نعمان حنيف في مقاله "الخلافة: تحدي الإسلام للنظام العالمي" والمنشور على موقع مراقبي الإعلام (media monitors)، بتاريخ 31/1/2006 حيث أبرز ما يتميّز به النظام الإقتصادي الإسلامي من الفصل بين ملكية الدولة والملكية العامة والملكية الخاصة كبديل عن نظام الخصخصة في النموذج الاقتصادي، وأبرز ميزة تشريع نظام النقد القائم على الذهب والفضة، وتعريف المشكلة الأساسية التي تواجه الاقتصاد أنها مشكلة في التوزيع وليست مشكلة في الإنتاج كما في الفكر الغربي، والتعامل مع الثروة المعدنية والتي تشمل النفط والغاز على أساس أنها "حق كل مواطن وتتولى الدولة مهمة حفظ حق التصرف بها.
منقول : منتدى العقاب
بقلم : الدكتور ماهر الجعبري
التاريخ: 05 / 10 / 2008 الساعة : 20:03
تجلّت ذروة الإعصار المالي في العالم عندما انفجرت أزمة الرهن العقاري في أمريكا، إلا أن ذلك لا يعني أن سبب المشكلة ينحصر في أزمة الرهن العقاري، بل إن جذور المسألة تعود إلى عقود طويلة وترتبط بتشريعات النظام الاقتصادي الرأسمالي، بحيث يمكن تشبيه كشف أزمة الرهن العقاري لانهيار النظام الاقتصادي بانفجار ورم سرطاني كان يسري في العالم دون أن يدرك العالم خطورته، فاستمر بالانتفاخ إلى أن انفجر وسال منه القيح فأزكم أنوف البشر وأدركوا الخطر.
وكان الربا هو أبرز أسباب أزمة الرهن العقاري، الذي أدى إلى عجز الناس عن تسديد القروض التي اشتروا بها منازلهم، فلجأوا للبيع، وازدادت عروض البيوت المعروضة للبيع حتى بلغت ثلاثة ملايين، وبرزت مشكلة توفر السيولة للبنوك لعدم استرداد الديون المترتبة على العقارات، فانفجرت الأزمة. إلا أن حصر التفكير في مشكلة الربا لوحدها لا يحل الأزمة، ولا بد من تشخيص كافة أبعادها وفهم العناصر الفعالة والحيوية المضادة في النظان البديل: وهذه ما تعرضه باختصار هذه المقالة علّها تحرك أذهان الاقتصاديين إلى البحث الجاد في تفاصيل الأزمة وتفاصيل العلاج الإقتصادي الإسلامي.
فقد ظهر في القرن الماضي نظام نقدي ورقي غير مربوط بالذهب والفضة لم تعرفه البشرية في تاريخها الطويل، وهو نظام فاسد كما تثبت أزمات السيولة العالمية وتذبذات أسعار الصرف الخيالية، وكان هذا النظام قد بدأ يتشكل عندما قررت أمريكا عدم اعتماد التغطية الكاملة من الذهب للعملة وصارت قيمة الدولار ترتبط بقوة السياسة لا بالرصيد من الذهب كما كان عليه الحال بداية القرن الماضي.
وكانت الفردية التي يقوم عليها المبدأ الرأسمالي قد حوّلت الإنسان إلى وحش شهواني: فأخذ يستحوذ على الأشياء بغريزة حب التملك دون ضوابط تحدد الملكية، وكان ذلك نقيضا للاشتراكية التي كانت قد حصرت الملكية في الدولة. وهذا أدى إلى تمركز رأس المال في جيوب محدودة في العالم، ومرة أخرى صارت أزمات تلك الجيوب تتحول إلى أزمات عالمية لأن نسبة صغيرة من البشر في العالم تمتلك وتتصرف بغالبية الثروة التي ينتجها العالم. وخصوصا أن المبدأ الرأسمالي يعرّف المسألة الإقتصادية بزيادة الثروة وتكثيرها دون النظر لمن يملك تلك الثروة وكيف يملكها ويتصرف بها؟
وإضافة لذلك، فإن التنافس على الثراء، في ظل التقدّم المدني الذي صنعه الغرب (وحق له أن يفخر بذلك التقدم التكنولوجي) قد جعله يحول قيمة الإنتاج العقلي إلى ممتلكات فكرية يحتكرها أصحاب الإبداعات أو الجهات التي تسخرّهم، فكان تشريع الملكية الفكرية وراء انتفاخ العديد من الشركات المعلوماتية الكونية وتحولها إلى بالونات من الدولارات بشكل متزايد، حتى أصبحت قاعدة من البيانات وجمل تربط مدخلاتها ومخرجاتها تساوي ملايين الدولارات، وتباع للعديد من الجهات مرات ومرات دون أن تمتلكها تلك الجهات التي تدفع.
وخلال القرن الماضي اشتعل النفط طاقة هائلة تدير عجلة ذلك التقدم، ومرة أخرى صب العائد من ذلك النفط ومن مخرجات تلك الطاقة إلى الجيوب المحتكرة التي صاغت حركة الاقتصاد في مجال النفط والطاقة منذ بدايات القرن الماضي واستمرت في احتكاره، وبالتالي استمرت في الاستحواذ على جل العائد من ذلك المجال، فخصصت بذلك ما تمتلكه الدول، وترسخت تشريعات الملكية الفردية في كل اتجاه.
وكان الاستعمار العسكري هو عنوان القرن الماضي والذي سبقه، وكانت الحربين العالمتين قد حفزتا الصناعات الحربية، وكان الصراع بين المعسكرات والقوى الدولية قد أدى إلى سباق التسلح، ومنذ منتصف القرن الماضي ظنّت الناس أن الحروب الكبيرة قد انتهت، وفجأة انهار الاتحاد السوفياتي، وصارت شركات السلاح بحاجة إلى تنشيط الطلب على منتجاتها، فإذ بأمريكا تعلن حربا كبيرة على أفغانستان وعلى العراق، بعدما بدأ السلاح يتكدس في مخازن الشركات المصنعة له، وهكذا نجح أرباب السياسة وأصحاب شركات السلاح في تحريك سوق المنتجات الحربية، وراجت من جديد الصناعات الحربية، وتبلورت مفاهيم جديدة للاستعمار بحجة نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، ولكن ذلك كان على حساب ضخ الأموال من الدول إلى الشركات وإلى الجيوب المحدودة، أي أن ذلك ساهم في تركّز الثروة في أيد محدودة وفي تحميل الدول ديونا باهظة من تكاليف تلك الحروب.
وتطورت فكرة الأسواق المالية، وصارت التجارة على الورق بدون القبض الفعلي للسلع، فصار التلاعب بالعرض والطلب يجري على شاشات رقمية وليس في أسواق البضائع الفعلية، وظهرت المضاربات كممارسات تجارية أدت إلى غلاء فاحش في الأسعار، وصار التشارك على أساس رأس المال بين أطراف لا تتلاقي ولا تتعاقد على الجهد والمال، وظهرت فكرة الشركات المساهمة التي تتذبذب أسهمها صعودا ونزولا بين دقيقة وأخرى، وصار بالإمكان إصدار تقارير مغلوطة عن أرباح تلك الشركات، وصار بالإمكان تسخير المحللين الماليين لإصدار تنبّؤات خاطئة حول الصعود المالي للشركات، فضاعت أموال الناس البسطاء الذين انجرّوا إلى أسواق المال، ومرة أخرى صبت تلك الأموال في جيوب من أسماهم الخاسرون "بالحيتان"، وتكرّرت مشاهد الإفلاس للمقامرين في الأسواق المالية.
طبعا هنالك عوامل أخرى تتعلق بانعدام الأخلافيات وضوابط السلوك الفردي التي جعلت مدراء المؤسسات المالية يحوّلون مبالغ باهظة إلى جيوبهم الخاصة من خلال الرواتب الخيالية والحوافز المالية التي شهد عليها أرباب التحليلات الاقتصادية.
ومن هنا يمكن عنونة النظام الاقتصادي الغربي بأنه حصر المسألة الإقتصادية بزيادة الثروة (الإنتاج) وأدى إلى تركيزها لدى أثرياء محدودين. ويمكن استخراج مجموعة من المعالم التي تحدد الأزمة الاقتصادية العالمية، بعضها يتعلّق بالتشريعات وبعضها يتعلق بالسلوكات والممارسات الرأسمالية القائمة على الفردية والجشع. وهي:
1. انتشار الربا وتشريعه
2. ظهور نظام النقد الورقي غير المربوط بالذهب والفضة
3. هيمنة الملكية الفردية على كافة أنواع الملكيات
4. انتشار وتشريع فكرة الملكية الفكرية للإبداعات والاختراعات
5. تحويل النفط والطاقة إلى ملكية خاصة وتشريع امتيازات الشركات
6. انتشار فكرة الخصخصة في العديد من القطاعات الاقتصادية
7. تسخير المبادئ والسياسة والحروب لخدمة الشركات المنتجة للسلاح
8. سيطرة فكرة المنفعة على السلوك الفردي وانتشار الجشع وانعدام الضوابط المعنوية (مثل الأخلاق)
9. ترسيخ تشريعات البيوع الوهمية (بدون تقابض) وتشريع أنواع من الشركات الباطلة.
10. وتعريف المسألة الأقتصادية بزيادة الانتاج والثروة
وهنا تأتي المقارنة السريعة مع معالم الرؤية الاقتصادية لحزب التحرير التي استمدها من الإسلام، لكل نقطة من النقاط أعلاه، وهي مجموعة من الأحكام الشرعية التي شرّعها رب البشر وهو أعلم بما كان وبما سيكون، ولن يتسّع المجال لعرض أدلتها الشرعية وشروحاتها، ولكن ذلك كلّه متوفر في أدبيات حزب التحرير، وخصوصا في كتاب النظام الإقتصادي في الإسلام:
1. حرمة الربا قطعية في الإسلام، وأزمة الرهن العقاري تجسد عمليا بطلان محاولات الالتفاف على الأحكام الشرعية وتشريع "البنوك الإسلامية" وإباحة قروض شراء البيوت للمسلمين في الغرب التي أفتى بها البعض.
2. اعتبار نظام الذهب والفضة النظام النقدي الوحيد في الإسلام، وعودة هذه المعادن إلى نقد ثابت بدل أن تكون سلعة عرضة لتغيّر الأسعار، وهو ما يؤدي إلى استقرار النقد.
3. تقسيم الملكيات إلى ملكية خاصة وعامة وملكيّة دولة، مما يقاوم الاحتكار ويوزع الثروات.
4. عدم مشروعية الملكية الفكرية للإبداعات والاختراعات، مما يقاوم احتكار المعرفة المنتجة، ويضع حدا للزيادة الخيالية لثروات الشركات المعلوماتية.
5.اعتبار النفط وكافة متعلقات الطاقة ملكية عامة لا يجوز حصرها في الأشخاص والشركات
6. بطلان خصخصة الملكيات العامة وملكيات الدولة، والحفاظ على حقوق الناس في ثروات تنتجها الدولة وتدير عمليات تنميتها.
7. جعل الصناعة الحربية تابعة لأمير الجهاد وبالتالي للدولة، وعدم فتح المجال لوجود شركات خاصة لتصنيع السلاح، وحصر الحروب في مقاومة الاحتلال ونشر رسالة الإسلام، مما يقضي على وجود "شركات الحروب" التي صارت تبتلع الدول في ميزانياتها.
8. تحريم البيوع التي لا يتم فيها التقابض، وبالتالي زوال فكرة المضاربات والوصول إلى استقرار أسعار السلع. وأيضا تحديد أنواع الشركات التي حصرها الإسلام في وجوب وجود الجهد كطرف رئيسي مشارك، وعدم إقرار مشروعية شركات الأموال لوحدها دون الجهد، والتي فتحت المجال للمقامرة بأسواق المال.
9. سيطرة روح تقوى الله على سلوكات الأفراد، وتنفيذهم لتشريعات النظام الاقتصادي الإسلامي على أساس الفروض والواجبات والمندوبات سعيا لنيل رضوان الله، وبالتالي وجود رقابة داخلية على سلوكات الأفراد.
10.تعريف المسألة الأقتصادية بأنها توزيع الثروة وليس إنتاجها، وتشريع ما يؤدي إلى توزيع الثروة وعدم تمركزها في أيد محدودة.
هذه نقاط عشرة مستمدة من الإسلام، بلورها حزب التحرير ضمن رؤيته الإقتصادية، وخصصت حزب التحرير في العنوان (مع أنها رؤية إسلامية عامة) لأن بعض الرؤى الاقتصادية المعاصرة التي انتسبت إلى تشريعات الإسلام قد أغفلت بعضها وخالفت بعضها الآخر، ولذلك فهي رؤية إسلامية تميّز بها حزب التحرير. وسرّ تميّزه يعود إلى منهجّية الاستنباط الصحيحة المستندة إلى النصوص الشرعية دون التأثر بإفرازات النظام الرأسمالي، بينما انزلق بعض الكتّاب والباحثين في هذا المجال إلى محاولات أسلمة النظريات الإقتصادية الرأسمالية انبهارا بها وتقليدا للغرب الغالب، وصار البحث التشريعي والاجتهاد عندهم قائما على وضع النتيجة قبل الأدلة ومن ثم البحث عن تفسيرات للنصوص التشريعية توافق تلك النتيجة التي وضعوها، وضاع تميّز الإسلام بعدما انحصر في مخرجات الرأسمالية.
وحزب التحرير سيعيد صياغة النظام الإقتصادي في دولة الخلافة القادمة على أساسها، ونظامه القادم سينعكس على كافة مناطق العالم في زمن ذابت فيه الحدود والفواصل التي كانت تقيّد تفاعلات المجتمعات والكيانات في التاريخ.
وحقيق على منظري الاقتصاد من المسلمين أن تكون هذه الأزمة العالمية دافعا لهم للغوص في تفاصيل هذه النقاط، وإبرازها، وطرح النظام الإقتصادي في العالم. ومن الأكيد أن بعض الغربيين ومثقفيهم يطرح بعض هذه المعالم منهم على سبيل المثال لا الحصر ما طرحه نعمان حنيف في مقاله "الخلافة: تحدي الإسلام للنظام العالمي" والمنشور على موقع مراقبي الإعلام (media monitors)، بتاريخ 31/1/2006 حيث أبرز ما يتميّز به النظام الإقتصادي الإسلامي من الفصل بين ملكية الدولة والملكية العامة والملكية الخاصة كبديل عن نظام الخصخصة في النموذج الاقتصادي، وأبرز ميزة تشريع نظام النقد القائم على الذهب والفضة، وتعريف المشكلة الأساسية التي تواجه الاقتصاد أنها مشكلة في التوزيع وليست مشكلة في الإنتاج كما في الفكر الغربي، والتعامل مع الثروة المعدنية والتي تشمل النفط والغاز على أساس أنها "حق كل مواطن وتتولى الدولة مهمة حفظ حق التصرف بها.
منقول : منتدى العقاب