من هناك
12-27-2009, 03:29 PM
إنــتـصــــــار الـحـســــين رضي الله عنه
المصدر: خاص مجمع مسجد الحاج بهاء الدين الحريري
بقلم الشيخ محمد فؤاد ضاهر
لله أنتَ شهر محرم! تجتمعُ فيكَ العجائبُ والتَّناقضاتُ؛ ففيكَ الفرحُ وفيكَ العزاءُ، وفيكَ المديحُ وفيكَ الرِّثاءُ! نحن قادمون على يومٍ حدثَت فيه مُصِيبةٌ عَظِيمةٌ ألمَّت بالمؤمنين، كَارِثةٌ أصابَت من المُحبِّين مَقتلاً، فَتَكَت بالفُؤادِ وأبكَت العُيونَ وأدمَت القُلوبَ، أن استُشهِدَ فلذةُ كَبدِ المُصطفَى صلى الله عليه وسلم وسِبطُه السيدُ الأشمُّ الأكرمُ الحُسَينُ بنُ عليٍّ رضي الله عنه، لكن شاءَ المولى عز وجل أن يَستشهِدَ البَطلُ ليُحييَ الأجيالَ بأنفاسِه المُلتهبةِ عِشقًا للمَجدِ والبُطولةِ والشَّرَفِ والإباءِ، على نَهجِ سَلفِه السَّابقين من الأنصارِ والمُهاجرين، ليبقَى الدِّينُ وتبقَى رَايتُه خفَّاقةً تُرفرِفُ في عنانِ السماءِ تُنازِعُ الجوزاءَ في العلياءِ، وتُنيرُ دربَ السالكين بخُطى الوَاصلِين.
أعجبُ -واللهِ- من أولئكَ الذين يقولون: «مُصابُ الحسين»، واللهُ تعالى يقول: {ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتًا بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون. فَرِحين بما آتاهم اللهُ من فضلِه ويستبشرون بالذين لم يَلحقوا بهم من خلفِهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون. يستبشرون بنعمةٍ من اللهِ وفضلٍ وأنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المؤمنين} [آل عمران: 169-171]. وقال صلى الله عليه وسلم: «حسينٌ منِّي وأنا من حسينٍ، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حسينًا، حسينٌ سبطٌ من الأسباطِ» (أخرجه الترمذي وابن ماجه، عن يعلى بن مرة). والحديثُ في فضائلِه يطولُ، وما حوته دواوينُ السُّنَّةِ من الرواياتِ الصحيحة والجياد والحسنة كافيةٌ، وفيها غُنيةٌ عن تلك الموضوعات والمنكرات التي كُذِبَت في فضائلِه، وهي تحمل بين طيَّاتِها الذمَّ المبطَّنَ لآلِ البيتِ عُمومًا ولعليٍ والحسين على وجه الخصوص!!
تنبَّأ النَّبيُّ s باستشهادِ الحسينِ رضي الله عنه، فعن عليٍّ رضي الله عنه أنه عندما كان منطلقًا إلى صفين، نادى ابنَه الحسينَ رضي الله عنه: اصبِرْ -أبا عبد اللهِ- بشطِّ الفراتِ. قال: وما ذاكَ؟ قال عليٌّ رضي الله عنه: دخلتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ وعيناهُ تَفيضانِ! قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، أغضبَك أحدٌ؟ ما شأنُ عينيكَ تفيضان؟ قال: «قامَ من عندي جبريلُ قَبلُ، فحدَّثني أنَّ الحُسينَ يُقتَلُ بشطِّ الفراتِ» قال: فقالَ جبريلُ: هل لكَ إلى أن أشمَّكَ من تربتِه؟ قالَ: قلتُ: «نعم. فمدَّ يدَه، فقبضَ قبضةً من ترابٍ، فأعطانيها، فلم أملكْ عينيَّ أن فاضتا» («الصحيحة»: 1171). وأما ما روي بأن السماء أمطرت دمًا، وأنه ما رُفع حجر إلا وُجد تحته دمٌ... فهذا كلُّه من الأكاذيب التي لا تصحُّ بسندٍ، وإنما هي رواياتٌ يبثونها لإثارة العواطف واستجاشة المشاعر، ليصرخوا بعد ذلك: يا لثارات الحسين...!
حين بويع ليزيدَ ما كان له هِمَّةٌ إلا أخذ البيعةِ من الحسين وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكرٍ! فكتبَ بذلك إلى الوليد بن عتبةَ نائبه على المدينة: أن خذْ هؤلاء بالبيعةِ أخذًا شديدًا ليست فيه رخصةٌ حتى يبايعوا. مع العلم أنَّ أباه معاوية رضي الله عنه كان قد أوصاه بالحسين خيرًا، فقال له: «انظر حسينَ بنَ عليٍّ، فإنَّه أحبُّ الناسِ إلى النَّاسِ. فصلْ رحمَه، وارفقْ به» («البداية والنهاية»: 8/162). فلا هو حفظَ وصيَّةَ أبيه، ولا اتَّقى اللهَ فيه، ولا راقبَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سيِّدٍ من أهل بيتِه!
خرج الحسينُ وابنُ الزبير إلى مكَّةَ فأقاما بها، وعكفَ النَّاسُ على الحسينِ يَفِدون إليه؛ فهو السيِّدُ الكبيرُ وابنُ بنتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس على وجهِ الأرضِ يومئذٍ أحدٌ يساويه أو يساميه. ومن ثّمَّ كثر ورودُ الكتبِ والرَّسائلِ عليه من بلاد العراقِ، يدعونه إليهم، وفيها أنَّهم ينتظرون قدومَه، فهم إلى الآن لم يُبايعوا. عند ذلك أرسلَ ابنَ عمِّه السيِّدَ الشَّريفَ الأيدَ مسلمَ بنَ عقيلٍ كي يكشفَ له حقيقةَ الأمر. فلمَّا وصل مسلمٌ نزلَ عند هانئ بن عروةَ وجاء الناسُ يبايعونه على بيعة الحسين رضي الله عنه، حتى تمَّت البيعةُ من أهل الكوفة. وأصبح كلُّ ما في الأمر الانتظارُ حتى يأتي الحسينُ! ثمَّ غدروا بابن عقيلٍ وقتلوه شرَّ قِتلةٍ! وكان ذلك في يوم عرفة.
أمام هذا الواقع المرير، واطلاع من تبقى من الصحابة على أحوال أهل العراق، ومعرفتهم الدقيقة بشؤونهم، وما خبروه عنهم من المكر والخداع وسرعة الانقلاب، -كما حصل ذلك مع كبار الصحابة (كعليٍّ، ومن قبله سعد بن أبي وقَّاصٍ)- كان لهم موقفٌ آخر، إذ حاول ذووا الرأي من أحبابه من الصحابة أن يمنعوه من الخروج ويحولوا بينه وبين القدوم على العراق، إشفاقًا عليه، وحفاظًا على روحه، ومعرفةً لعظيم فضلِه ومنزلته، وهو مصرٌّ على ما رشح في خاطرِه. من بين هؤلاء: ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو سعيد الخدري، وأخوه محمد ابن الحنفية. حتى قال له أبو سعيد الخدري: (يا أبا عبد الله، إني لك ناصحٌ وإني عليك مشفق. قد بلغني أنه قد كاتبكم قومٌ من شيعتِكم بالكوفةِ يدعونكَ إلى الخروجِ إليهم! فلا تخرج إليهم؛ فإني سمعتُ أباك يقولُ في الكوفة: واللهِ، لقد مللتهم وأبغضتهم، وملُّوني وأبغضوني، وما يكونُ منهم وفاءٌ قط. ومن فاز بهم فازَ بالسَّهمِ الأخيبِ. واللهِ، ما لهم نيَّاتٌ، ولا عزمٌ على أمرٍ، ولا صبرٌ على سيفٍ) («البداية والنهاية»: 8/161). وعن ابن عمر أنه كان بمكَّةَ (فبلغه أنَّ الحسينَ قد توجَّه إلى العراق! فلحقه على مسيرةِ ثلاث ليالٍ، فقال: أين تريدُ؟ قال: العراق. وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتُهم. فقال: لا تأتِهم. فأبى! فقال ابنُ عمر: إني محدِّثُك حديثًا: إنَّ جبريلَ أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فخيَّرَه بين الدنيا والآخرة، فاختارَ الآخرة ولم يرد الدنيا. وإنَّكَ بَضعةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. واللهِ ما يَليها أحدٌ منكم أبدًا، وما صرفَها اللهُ عنكم إلا للذي هو خيرٌ لكم. فأبى أن يرجعَ! فاعتنقه ابنُ عمر وبكى، وقال: أستودعك اللهَ من قتيلٍ) («البدايو والنهاية»: 6/232، 8/160). وكان ابنُ عمر يقول: (ببني هاشمٍ فُتِحَ هذا الأمرُ، وببني هاشمٍ يُختمُ، فإذا رأيتَ الهاشميَّ قد ملكَ فقد ذهبَ الزَّمانُ) («البداية والنهاية»: 8/161).
مع قدوم الحسينِ على العراق، لقي الشاعرَ الفرزدقَ، فقال له: من أين أتيتَ؟ قالَ: من العراقِ. قال الحسينُ: كيفَ أهلُ العراقِ؟ قال قلوبُهم معكَ وسيوفُهم مع بني أميَّةَ، واللهُ المستعان («البداية والنهاية»: 8/166). فهمَّ الحسينُ أن يرجعَ، فقال له إخوةُ مسلم ابن عقيل: واللهِ لا نرجعُ حتى نأخذ بثأرِنا ممن قتلَ أخانا، أو نُقتل) («البداية والنهاية»: 8/197). فامتنع الحسين عن الذهاب وإذ به يُفاجأ بعسكر عمر بن سعد تبلغ مؤخرة الجيش أربعة آلاف مقاتل! تكلم عمر مع الحسين وأمره أن يسلم نفسه إلى عبيد الله ابن زياد! فأبى الحسينُ ذلك. وعندما رأى أن الأمر جدٌّ قال لابن سعد: إني أُخيِّرُك بين ثلاث، فاختر منها ما نشاء. قال: ما هي؟ قال: أن تدعني أرجع، أو تتركني أذهبُ إلى ثغر من ثغور المسلمين، أو تتركني أذهب إلى يزيد أضع يدي في يده بالشام («البداية والنهاية»: 8/197).
وافق ابن زياد على مطلب الحسين بادئ الأمر ولكن الشمر ابن ذي الجوشن أغراه أن ينزل على حكمه، فانقلب ابن زياد، ورفض الحسين ذلك وقال: لا واللهِ، لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبدًا.
ثم نشأت المعركةُ والشمر يثير الجيش على قتال الحسين! حتى أجهزوا عليه، وكان أنس بن سنان النخعي هو أول من باشر بقتل الحسين، وقيل: الذي قتله الشمر.
قُتل مع الحسين ثمانية عشر رجلاً كلهم من آل البيت، منهم: أخواه أبو بكر وعثمان. وأبو بكر ابن أخيه الحسن. واللافت في هذا أنَّ هؤلاء الذين قُتِلوا بين يديه لا نجد لهم ذكرًا في المآتم الحسينية وليالي عاشوراء، حتى لا يُقال: إن آل البيت قد سموا أسماء أبنائهم بأسماء شيوخ الإسلام وأعلام الأنام: أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم!
من خلال هذا السياق نلمس أن الحسين قد استحسن مشورة السابقين له واستصوب رأيهم بعد أن جرَّب بنفسِه. كما اتَّضح جليًّا أنَّ من استقدم الحسين وناشده البيعة قد غدروا به، وأن القوم قد استفاقوا لهذه الجريمة النكراء التي ارتكبوها بسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هم اليوم يريدون أن يكفروا عن خطيئتهم بألوان من العذاب يسوقونه إلى أنفسهم في العاجلة قبل الآجلة، وليس من عذاب الله محيص، يوم يقف الجميع أمام محكمة الجبار، يسألهم عما فرطوا فيما استرعاهم إياه!
فليت المسلمين يعوا أن ما مرَّ قد حصل وانتهى، وأنه لا يوجد مؤمن يناصب أهل البيت العداء، بل لا يزال الموحدون يتعبدون الله بحبهم والتحديث بفضائلهم، من على المنابر وفي حلق العلم، ويسطرون ذلك في الكتب والمصنفات، ويسمون أبناءهم وبناتهم بأسمائهم تقرُّبًا إلى الله ومحبةً...
المصدر: خاص مجمع مسجد الحاج بهاء الدين الحريري
بقلم الشيخ محمد فؤاد ضاهر
لله أنتَ شهر محرم! تجتمعُ فيكَ العجائبُ والتَّناقضاتُ؛ ففيكَ الفرحُ وفيكَ العزاءُ، وفيكَ المديحُ وفيكَ الرِّثاءُ! نحن قادمون على يومٍ حدثَت فيه مُصِيبةٌ عَظِيمةٌ ألمَّت بالمؤمنين، كَارِثةٌ أصابَت من المُحبِّين مَقتلاً، فَتَكَت بالفُؤادِ وأبكَت العُيونَ وأدمَت القُلوبَ، أن استُشهِدَ فلذةُ كَبدِ المُصطفَى صلى الله عليه وسلم وسِبطُه السيدُ الأشمُّ الأكرمُ الحُسَينُ بنُ عليٍّ رضي الله عنه، لكن شاءَ المولى عز وجل أن يَستشهِدَ البَطلُ ليُحييَ الأجيالَ بأنفاسِه المُلتهبةِ عِشقًا للمَجدِ والبُطولةِ والشَّرَفِ والإباءِ، على نَهجِ سَلفِه السَّابقين من الأنصارِ والمُهاجرين، ليبقَى الدِّينُ وتبقَى رَايتُه خفَّاقةً تُرفرِفُ في عنانِ السماءِ تُنازِعُ الجوزاءَ في العلياءِ، وتُنيرُ دربَ السالكين بخُطى الوَاصلِين.
أعجبُ -واللهِ- من أولئكَ الذين يقولون: «مُصابُ الحسين»، واللهُ تعالى يقول: {ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتًا بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون. فَرِحين بما آتاهم اللهُ من فضلِه ويستبشرون بالذين لم يَلحقوا بهم من خلفِهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون. يستبشرون بنعمةٍ من اللهِ وفضلٍ وأنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المؤمنين} [آل عمران: 169-171]. وقال صلى الله عليه وسلم: «حسينٌ منِّي وأنا من حسينٍ، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حسينًا، حسينٌ سبطٌ من الأسباطِ» (أخرجه الترمذي وابن ماجه، عن يعلى بن مرة). والحديثُ في فضائلِه يطولُ، وما حوته دواوينُ السُّنَّةِ من الرواياتِ الصحيحة والجياد والحسنة كافيةٌ، وفيها غُنيةٌ عن تلك الموضوعات والمنكرات التي كُذِبَت في فضائلِه، وهي تحمل بين طيَّاتِها الذمَّ المبطَّنَ لآلِ البيتِ عُمومًا ولعليٍ والحسين على وجه الخصوص!!
تنبَّأ النَّبيُّ s باستشهادِ الحسينِ رضي الله عنه، فعن عليٍّ رضي الله عنه أنه عندما كان منطلقًا إلى صفين، نادى ابنَه الحسينَ رضي الله عنه: اصبِرْ -أبا عبد اللهِ- بشطِّ الفراتِ. قال: وما ذاكَ؟ قال عليٌّ رضي الله عنه: دخلتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ وعيناهُ تَفيضانِ! قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، أغضبَك أحدٌ؟ ما شأنُ عينيكَ تفيضان؟ قال: «قامَ من عندي جبريلُ قَبلُ، فحدَّثني أنَّ الحُسينَ يُقتَلُ بشطِّ الفراتِ» قال: فقالَ جبريلُ: هل لكَ إلى أن أشمَّكَ من تربتِه؟ قالَ: قلتُ: «نعم. فمدَّ يدَه، فقبضَ قبضةً من ترابٍ، فأعطانيها، فلم أملكْ عينيَّ أن فاضتا» («الصحيحة»: 1171). وأما ما روي بأن السماء أمطرت دمًا، وأنه ما رُفع حجر إلا وُجد تحته دمٌ... فهذا كلُّه من الأكاذيب التي لا تصحُّ بسندٍ، وإنما هي رواياتٌ يبثونها لإثارة العواطف واستجاشة المشاعر، ليصرخوا بعد ذلك: يا لثارات الحسين...!
حين بويع ليزيدَ ما كان له هِمَّةٌ إلا أخذ البيعةِ من الحسين وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكرٍ! فكتبَ بذلك إلى الوليد بن عتبةَ نائبه على المدينة: أن خذْ هؤلاء بالبيعةِ أخذًا شديدًا ليست فيه رخصةٌ حتى يبايعوا. مع العلم أنَّ أباه معاوية رضي الله عنه كان قد أوصاه بالحسين خيرًا، فقال له: «انظر حسينَ بنَ عليٍّ، فإنَّه أحبُّ الناسِ إلى النَّاسِ. فصلْ رحمَه، وارفقْ به» («البداية والنهاية»: 8/162). فلا هو حفظَ وصيَّةَ أبيه، ولا اتَّقى اللهَ فيه، ولا راقبَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سيِّدٍ من أهل بيتِه!
خرج الحسينُ وابنُ الزبير إلى مكَّةَ فأقاما بها، وعكفَ النَّاسُ على الحسينِ يَفِدون إليه؛ فهو السيِّدُ الكبيرُ وابنُ بنتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس على وجهِ الأرضِ يومئذٍ أحدٌ يساويه أو يساميه. ومن ثّمَّ كثر ورودُ الكتبِ والرَّسائلِ عليه من بلاد العراقِ، يدعونه إليهم، وفيها أنَّهم ينتظرون قدومَه، فهم إلى الآن لم يُبايعوا. عند ذلك أرسلَ ابنَ عمِّه السيِّدَ الشَّريفَ الأيدَ مسلمَ بنَ عقيلٍ كي يكشفَ له حقيقةَ الأمر. فلمَّا وصل مسلمٌ نزلَ عند هانئ بن عروةَ وجاء الناسُ يبايعونه على بيعة الحسين رضي الله عنه، حتى تمَّت البيعةُ من أهل الكوفة. وأصبح كلُّ ما في الأمر الانتظارُ حتى يأتي الحسينُ! ثمَّ غدروا بابن عقيلٍ وقتلوه شرَّ قِتلةٍ! وكان ذلك في يوم عرفة.
أمام هذا الواقع المرير، واطلاع من تبقى من الصحابة على أحوال أهل العراق، ومعرفتهم الدقيقة بشؤونهم، وما خبروه عنهم من المكر والخداع وسرعة الانقلاب، -كما حصل ذلك مع كبار الصحابة (كعليٍّ، ومن قبله سعد بن أبي وقَّاصٍ)- كان لهم موقفٌ آخر، إذ حاول ذووا الرأي من أحبابه من الصحابة أن يمنعوه من الخروج ويحولوا بينه وبين القدوم على العراق، إشفاقًا عليه، وحفاظًا على روحه، ومعرفةً لعظيم فضلِه ومنزلته، وهو مصرٌّ على ما رشح في خاطرِه. من بين هؤلاء: ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو سعيد الخدري، وأخوه محمد ابن الحنفية. حتى قال له أبو سعيد الخدري: (يا أبا عبد الله، إني لك ناصحٌ وإني عليك مشفق. قد بلغني أنه قد كاتبكم قومٌ من شيعتِكم بالكوفةِ يدعونكَ إلى الخروجِ إليهم! فلا تخرج إليهم؛ فإني سمعتُ أباك يقولُ في الكوفة: واللهِ، لقد مللتهم وأبغضتهم، وملُّوني وأبغضوني، وما يكونُ منهم وفاءٌ قط. ومن فاز بهم فازَ بالسَّهمِ الأخيبِ. واللهِ، ما لهم نيَّاتٌ، ولا عزمٌ على أمرٍ، ولا صبرٌ على سيفٍ) («البداية والنهاية»: 8/161). وعن ابن عمر أنه كان بمكَّةَ (فبلغه أنَّ الحسينَ قد توجَّه إلى العراق! فلحقه على مسيرةِ ثلاث ليالٍ، فقال: أين تريدُ؟ قال: العراق. وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتُهم. فقال: لا تأتِهم. فأبى! فقال ابنُ عمر: إني محدِّثُك حديثًا: إنَّ جبريلَ أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فخيَّرَه بين الدنيا والآخرة، فاختارَ الآخرة ولم يرد الدنيا. وإنَّكَ بَضعةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. واللهِ ما يَليها أحدٌ منكم أبدًا، وما صرفَها اللهُ عنكم إلا للذي هو خيرٌ لكم. فأبى أن يرجعَ! فاعتنقه ابنُ عمر وبكى، وقال: أستودعك اللهَ من قتيلٍ) («البدايو والنهاية»: 6/232، 8/160). وكان ابنُ عمر يقول: (ببني هاشمٍ فُتِحَ هذا الأمرُ، وببني هاشمٍ يُختمُ، فإذا رأيتَ الهاشميَّ قد ملكَ فقد ذهبَ الزَّمانُ) («البداية والنهاية»: 8/161).
مع قدوم الحسينِ على العراق، لقي الشاعرَ الفرزدقَ، فقال له: من أين أتيتَ؟ قالَ: من العراقِ. قال الحسينُ: كيفَ أهلُ العراقِ؟ قال قلوبُهم معكَ وسيوفُهم مع بني أميَّةَ، واللهُ المستعان («البداية والنهاية»: 8/166). فهمَّ الحسينُ أن يرجعَ، فقال له إخوةُ مسلم ابن عقيل: واللهِ لا نرجعُ حتى نأخذ بثأرِنا ممن قتلَ أخانا، أو نُقتل) («البداية والنهاية»: 8/197). فامتنع الحسين عن الذهاب وإذ به يُفاجأ بعسكر عمر بن سعد تبلغ مؤخرة الجيش أربعة آلاف مقاتل! تكلم عمر مع الحسين وأمره أن يسلم نفسه إلى عبيد الله ابن زياد! فأبى الحسينُ ذلك. وعندما رأى أن الأمر جدٌّ قال لابن سعد: إني أُخيِّرُك بين ثلاث، فاختر منها ما نشاء. قال: ما هي؟ قال: أن تدعني أرجع، أو تتركني أذهبُ إلى ثغر من ثغور المسلمين، أو تتركني أذهب إلى يزيد أضع يدي في يده بالشام («البداية والنهاية»: 8/197).
وافق ابن زياد على مطلب الحسين بادئ الأمر ولكن الشمر ابن ذي الجوشن أغراه أن ينزل على حكمه، فانقلب ابن زياد، ورفض الحسين ذلك وقال: لا واللهِ، لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبدًا.
ثم نشأت المعركةُ والشمر يثير الجيش على قتال الحسين! حتى أجهزوا عليه، وكان أنس بن سنان النخعي هو أول من باشر بقتل الحسين، وقيل: الذي قتله الشمر.
قُتل مع الحسين ثمانية عشر رجلاً كلهم من آل البيت، منهم: أخواه أبو بكر وعثمان. وأبو بكر ابن أخيه الحسن. واللافت في هذا أنَّ هؤلاء الذين قُتِلوا بين يديه لا نجد لهم ذكرًا في المآتم الحسينية وليالي عاشوراء، حتى لا يُقال: إن آل البيت قد سموا أسماء أبنائهم بأسماء شيوخ الإسلام وأعلام الأنام: أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم!
من خلال هذا السياق نلمس أن الحسين قد استحسن مشورة السابقين له واستصوب رأيهم بعد أن جرَّب بنفسِه. كما اتَّضح جليًّا أنَّ من استقدم الحسين وناشده البيعة قد غدروا به، وأن القوم قد استفاقوا لهذه الجريمة النكراء التي ارتكبوها بسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هم اليوم يريدون أن يكفروا عن خطيئتهم بألوان من العذاب يسوقونه إلى أنفسهم في العاجلة قبل الآجلة، وليس من عذاب الله محيص، يوم يقف الجميع أمام محكمة الجبار، يسألهم عما فرطوا فيما استرعاهم إياه!
فليت المسلمين يعوا أن ما مرَّ قد حصل وانتهى، وأنه لا يوجد مؤمن يناصب أهل البيت العداء، بل لا يزال الموحدون يتعبدون الله بحبهم والتحديث بفضائلهم، من على المنابر وفي حلق العلم، ويسطرون ذلك في الكتب والمصنفات، ويسمون أبناءهم وبناتهم بأسمائهم تقرُّبًا إلى الله ومحبةً...