من هناك
03-14-2010, 10:10 PM
هذا المقال كتب منذ عقد من الزمان
أليس من المضحك المبكي، القدرة على إعادة نشر مقالات قديمة في عالمنا العربي، ربما دون أن يلحظ بعض القراء أنها قديمة
عقد من الزمان، تقدمت فيه تركيا خطوات واسعة وانطلق المارد الصيني في العالم يبحث عن الصدارة فيما العالم العربي يقبع في القاع ما زال يتسول السلام من المحتل ويعطي مبادرات السلام الفرصة تلو الأخرى...وما زالت أنظمة عربية غارقة في الدكتاتورية تتحدث عن الديمقراطية الممنوحة وحكومات فاسدة تشهر سيف الإصلاح
ديمقراطية أم ديكتاتورية! أيهما يريد الغرب لنا؟
في زيارته الأخيرة للدولة العبرية، أطلق رئيس الوزراء الفرنسي لونيل جوسبان تصريحات أثارت جدلا كبيرا ولغطا واسعا في مختلف الأوساط السياسية بل وحتى الشعبية، الذي أثار انتباهي في تلك التصريحات وصفه لإسرائيل بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة وذكره “سورية” بالاسم واصفا إياها بالديكتاتورية. قبل هذه الزيارة وتلك التصريحات بأسابيع عدة، زار بشّار الأسد نجل الرئيس السوري باريس والتقاه الرئيس الفرنسي جاك شيراك في قصر الأليزيه، بالرغم من ان بشّار لا يحمل أي صفة رسمية في النظام السوري بعد تؤهله لتلك المقابلة والزيارة. الزيارة واللقاء الرئاسي الفرنسي شكّلا ضوءا دوليا أخضرا ومباركة فرنسية واضحة لتنصيب الإبن الأسد ليخلف أباه على رأس النظام الذي وصفه جوسبان من بعد بالنظام الديكتاتوري.
السلوك الفرنسي تكرر وبشكل أوضح في مطلع التسعينات حين اكتسحت جبهة الإنقاذ الاسلامية صناديق الإقتراع في الانتخابات التشريعية الجزائرية مما أدى الى الإنقلاب العسكري بمباركة فرنسا إن لم نقل برغبتها وإرادتها. وهنا تدعم فرنسا وبشكل واضح الخيار العسكري الديكتاتوري على حساب الديمقراطية والخيار الشعبي مما أدى لدخول الجزائر متاهات صراع دموي لم تخرج منه الى حد الآن.
في العام الماضي نشرت بعض الصحف الايطالية تقارير تزعم أن الإنقلاب الأبيض الذي حدث في تونس أواخر الثمانينات والذي أوصل زين العابدين بن على الى سدة الحكم على حساب بورقيبة، كان بتخطيط وتنظيم المخابرات الايطالية وبمباركة أمريكية للحيلولة دون وصول المعارضة الاسلامية الى دائرة السلطة في تونس. أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي تلعب عالميا دور الشرطي في مسائل الأمن والهيمنة العسكرية ودور الموجّه والمرشد الأخلاقي في مواضيع الديمراطية وحقوق الإنسان، فوزارة الخارجية الأمريكية تصدر تقريرا سنويا يقوّم أوضاع حقوق الإنسان في مختلف دول العالم ويرصد الانتهاكات في الدول المخالفة ويذكرها بالإسم، وينتقد أنظمة الحكم الشمولية ويصف بعض الدول بأنها إما إرهابية أو داعمة للإرهاب. الولايات المتحدة نفسها تحتفظ بعلاقات وثيقة في العالم العربي ترقى لدرجة التحالف إن لم نقل الهيمنة المطلقة مع أنظمة أبعد ما تكون عن الديمقراطية أو القيم التي تدعي الولايات المتحدة صونها أو الحرص عليها كحقوق الإنسان والمشاركة السياسية.
الأمثلة كثيرة لا يتسع المقال لحصرها حول الفرق الواسع بين ما يعلنه الغرب وما يمارسه على أرض الواقع فيما يتعلق بالديمقراطية والمشاركة السياسية في ما يخص عالمنا العربي، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيا: هل ترغب الولايات المتحدة خصوصا والغرب عموما في رؤية أنظمة ديمقراطية تحكم الدول العربية أم أنّ مصالحها تقتضي بأن تكون الأنظمة العربية غارقة في الدكتاتورية وفي ممارسة القهر والقمع السياسي؟
لنتخيل ونفترض أن بلادنا العربية تحكمها أنظمة ديمقراطية حقيقية تخاف المساءلة والمحاسبة، ومن ثم فإن صفقات الأسلحة الأمريكية المتتالية ستعرض على مجالس النواب العربية لمصادقتها والتي ستسأل عن جدوى تلك الصفقات وفائدتها وستستدعي الخبراء العسكريين لاستشارتهم وستقارن بين الأسلحة الأمريكية وبين المعروض في الأسواق العالمية. أما برلمانات الدول العربية النفطية فقد ترفض التوصيات الأمريكية برفع الإنتاج وربما تأمر حكوماتها بتقليل الإنتاج إذا كان ذلك سيؤدي الى الحصول على نفس المداخيل ويحفظ الثروة للأجيال القادمة. تخيّل أن برلمانات الدول العربية التي وقّعت إتفاقيات السلام برعاية أمريكية رفضت تلك الاتفاقيات وأقالت الذين وقعوها لتفريطهم في الحقوق العربية ولتنازلاتهم الماراثونية. أمّا رؤساء الدول العربية الصديقة الحليفة لأمريكا فقد يسقطون في الانتخابات الرئاسية لفشلهم الذريع في كل الميادين السياسية والاقتصادية ولتغييرهم سياسات بلادهم حربا وسلما، إشتراكية ورأسمالية من النقيض الى النقيض دونما تبرير أو إعتذار عن أخطاء الماضي .
بعد نهاية حرب الخليج الثانية، إتصل الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش هاتفيا بحاكم عربي لدولة غنية طالبا منه إلغاء مناقصة شراء لطائرات إيرباص الأوروبية وإرساء مناقصة الشراء على شركة البوينغ الأمريكية لإنقاذها من الكساد، وبالفعل أدى ذلك الاتصال الهاتفي القصير الى إصدار أمر ملكي بشراء الطائرات الأمريكية.
وحين كانت المعارضة الفلسطينية لإتفاقيات السلام فاعلة كانت الإدارة الأمريكية تحث السلطة الفلسطينية على قمعها، وعندما أنشأت تلك السلطة محاكم أمن الدولة والتي كانت تحاكم المعارضين وتصدر أحكامها خلال دقائق مع غياب كل ضمانات العدالة والنزاهة، أسبغت الإدارة الأمريكية الكثير من المديح لتلك الخطوات الشجاعة رغم أن تلك المحاكم كانت مثار إنتقاد الجماعات والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان.
الأمثلة عديدة سواء ما كان منها إفتراضي أو حقيقي، والتي ذكرت بعضها وبشكل مختصر وسريع -وما خفي كان أعظم- والتي تصل بنا الى النتيجة ذاتها، مصلحة القوى المتنفذة في القرار الدولي تقتضي أن تحكم بلادنا أنظمة ديكتاتورية فاسدة.
أما ما يثار عن أوضاع حقوق الإنسان والحريات في بلادنا سواء من الخارجية الأمريكية وغيرها، فهو موجه بالدرجة الأولى للرأي العام المحلي في الغرب وللحفاظ على شيء من المصداقية وفي نفس الوقت للضغط على ذات الأنظمة إن حاولت أو فكرت بالتوجه نحو شيء من استقلالية القرار السياسي. بالإضافة للعوامل الإقتصادية والسياسية والاستهلاكية التي تستوجب بقاءنا في فلك الديكتاتورية والتخلف، فإن العامل الحضاري المتمثل بالاسلام كبديل: نظام حياة ومنهج حكم، أخلاقيا وفكريا، سياسيا وإقتصاديا، يرفض الظلم ويأبى التبعية، مما يدفع برياح الديمقراطية والتعبير والتي هبّت على أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات بالإبتعاد كثيرا عن عالمنا العربي والاسلامي.
أما الأمر المثير للضحك وإن كان ضحك كالبكاء، هو في ما يصرح به المسؤولون الغربيون في مناسبات متعددة كما فعل جوسبان في إسرائيل، يمتدحون ديمقراطيتها ويعيّرونا بالديكتاتورية، يدعمون الديكتاتوريات عندنا بل ويؤسسونها أحيانا ثم يعيّبوننا بها.
ياسر سعد
أبريل 2000
أليس من المضحك المبكي، القدرة على إعادة نشر مقالات قديمة في عالمنا العربي، ربما دون أن يلحظ بعض القراء أنها قديمة
عقد من الزمان، تقدمت فيه تركيا خطوات واسعة وانطلق المارد الصيني في العالم يبحث عن الصدارة فيما العالم العربي يقبع في القاع ما زال يتسول السلام من المحتل ويعطي مبادرات السلام الفرصة تلو الأخرى...وما زالت أنظمة عربية غارقة في الدكتاتورية تتحدث عن الديمقراطية الممنوحة وحكومات فاسدة تشهر سيف الإصلاح
ديمقراطية أم ديكتاتورية! أيهما يريد الغرب لنا؟
في زيارته الأخيرة للدولة العبرية، أطلق رئيس الوزراء الفرنسي لونيل جوسبان تصريحات أثارت جدلا كبيرا ولغطا واسعا في مختلف الأوساط السياسية بل وحتى الشعبية، الذي أثار انتباهي في تلك التصريحات وصفه لإسرائيل بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة وذكره “سورية” بالاسم واصفا إياها بالديكتاتورية. قبل هذه الزيارة وتلك التصريحات بأسابيع عدة، زار بشّار الأسد نجل الرئيس السوري باريس والتقاه الرئيس الفرنسي جاك شيراك في قصر الأليزيه، بالرغم من ان بشّار لا يحمل أي صفة رسمية في النظام السوري بعد تؤهله لتلك المقابلة والزيارة. الزيارة واللقاء الرئاسي الفرنسي شكّلا ضوءا دوليا أخضرا ومباركة فرنسية واضحة لتنصيب الإبن الأسد ليخلف أباه على رأس النظام الذي وصفه جوسبان من بعد بالنظام الديكتاتوري.
السلوك الفرنسي تكرر وبشكل أوضح في مطلع التسعينات حين اكتسحت جبهة الإنقاذ الاسلامية صناديق الإقتراع في الانتخابات التشريعية الجزائرية مما أدى الى الإنقلاب العسكري بمباركة فرنسا إن لم نقل برغبتها وإرادتها. وهنا تدعم فرنسا وبشكل واضح الخيار العسكري الديكتاتوري على حساب الديمقراطية والخيار الشعبي مما أدى لدخول الجزائر متاهات صراع دموي لم تخرج منه الى حد الآن.
في العام الماضي نشرت بعض الصحف الايطالية تقارير تزعم أن الإنقلاب الأبيض الذي حدث في تونس أواخر الثمانينات والذي أوصل زين العابدين بن على الى سدة الحكم على حساب بورقيبة، كان بتخطيط وتنظيم المخابرات الايطالية وبمباركة أمريكية للحيلولة دون وصول المعارضة الاسلامية الى دائرة السلطة في تونس. أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي تلعب عالميا دور الشرطي في مسائل الأمن والهيمنة العسكرية ودور الموجّه والمرشد الأخلاقي في مواضيع الديمراطية وحقوق الإنسان، فوزارة الخارجية الأمريكية تصدر تقريرا سنويا يقوّم أوضاع حقوق الإنسان في مختلف دول العالم ويرصد الانتهاكات في الدول المخالفة ويذكرها بالإسم، وينتقد أنظمة الحكم الشمولية ويصف بعض الدول بأنها إما إرهابية أو داعمة للإرهاب. الولايات المتحدة نفسها تحتفظ بعلاقات وثيقة في العالم العربي ترقى لدرجة التحالف إن لم نقل الهيمنة المطلقة مع أنظمة أبعد ما تكون عن الديمقراطية أو القيم التي تدعي الولايات المتحدة صونها أو الحرص عليها كحقوق الإنسان والمشاركة السياسية.
الأمثلة كثيرة لا يتسع المقال لحصرها حول الفرق الواسع بين ما يعلنه الغرب وما يمارسه على أرض الواقع فيما يتعلق بالديمقراطية والمشاركة السياسية في ما يخص عالمنا العربي، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيا: هل ترغب الولايات المتحدة خصوصا والغرب عموما في رؤية أنظمة ديمقراطية تحكم الدول العربية أم أنّ مصالحها تقتضي بأن تكون الأنظمة العربية غارقة في الدكتاتورية وفي ممارسة القهر والقمع السياسي؟
لنتخيل ونفترض أن بلادنا العربية تحكمها أنظمة ديمقراطية حقيقية تخاف المساءلة والمحاسبة، ومن ثم فإن صفقات الأسلحة الأمريكية المتتالية ستعرض على مجالس النواب العربية لمصادقتها والتي ستسأل عن جدوى تلك الصفقات وفائدتها وستستدعي الخبراء العسكريين لاستشارتهم وستقارن بين الأسلحة الأمريكية وبين المعروض في الأسواق العالمية. أما برلمانات الدول العربية النفطية فقد ترفض التوصيات الأمريكية برفع الإنتاج وربما تأمر حكوماتها بتقليل الإنتاج إذا كان ذلك سيؤدي الى الحصول على نفس المداخيل ويحفظ الثروة للأجيال القادمة. تخيّل أن برلمانات الدول العربية التي وقّعت إتفاقيات السلام برعاية أمريكية رفضت تلك الاتفاقيات وأقالت الذين وقعوها لتفريطهم في الحقوق العربية ولتنازلاتهم الماراثونية. أمّا رؤساء الدول العربية الصديقة الحليفة لأمريكا فقد يسقطون في الانتخابات الرئاسية لفشلهم الذريع في كل الميادين السياسية والاقتصادية ولتغييرهم سياسات بلادهم حربا وسلما، إشتراكية ورأسمالية من النقيض الى النقيض دونما تبرير أو إعتذار عن أخطاء الماضي .
بعد نهاية حرب الخليج الثانية، إتصل الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش هاتفيا بحاكم عربي لدولة غنية طالبا منه إلغاء مناقصة شراء لطائرات إيرباص الأوروبية وإرساء مناقصة الشراء على شركة البوينغ الأمريكية لإنقاذها من الكساد، وبالفعل أدى ذلك الاتصال الهاتفي القصير الى إصدار أمر ملكي بشراء الطائرات الأمريكية.
وحين كانت المعارضة الفلسطينية لإتفاقيات السلام فاعلة كانت الإدارة الأمريكية تحث السلطة الفلسطينية على قمعها، وعندما أنشأت تلك السلطة محاكم أمن الدولة والتي كانت تحاكم المعارضين وتصدر أحكامها خلال دقائق مع غياب كل ضمانات العدالة والنزاهة، أسبغت الإدارة الأمريكية الكثير من المديح لتلك الخطوات الشجاعة رغم أن تلك المحاكم كانت مثار إنتقاد الجماعات والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان.
الأمثلة عديدة سواء ما كان منها إفتراضي أو حقيقي، والتي ذكرت بعضها وبشكل مختصر وسريع -وما خفي كان أعظم- والتي تصل بنا الى النتيجة ذاتها، مصلحة القوى المتنفذة في القرار الدولي تقتضي أن تحكم بلادنا أنظمة ديكتاتورية فاسدة.
أما ما يثار عن أوضاع حقوق الإنسان والحريات في بلادنا سواء من الخارجية الأمريكية وغيرها، فهو موجه بالدرجة الأولى للرأي العام المحلي في الغرب وللحفاظ على شيء من المصداقية وفي نفس الوقت للضغط على ذات الأنظمة إن حاولت أو فكرت بالتوجه نحو شيء من استقلالية القرار السياسي. بالإضافة للعوامل الإقتصادية والسياسية والاستهلاكية التي تستوجب بقاءنا في فلك الديكتاتورية والتخلف، فإن العامل الحضاري المتمثل بالاسلام كبديل: نظام حياة ومنهج حكم، أخلاقيا وفكريا، سياسيا وإقتصاديا، يرفض الظلم ويأبى التبعية، مما يدفع برياح الديمقراطية والتعبير والتي هبّت على أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات بالإبتعاد كثيرا عن عالمنا العربي والاسلامي.
أما الأمر المثير للضحك وإن كان ضحك كالبكاء، هو في ما يصرح به المسؤولون الغربيون في مناسبات متعددة كما فعل جوسبان في إسرائيل، يمتدحون ديمقراطيتها ويعيّرونا بالديكتاتورية، يدعمون الديكتاتوريات عندنا بل ويؤسسونها أحيانا ثم يعيّبوننا بها.
ياسر سعد
أبريل 2000