أبو عبد
04-11-2004, 06:05 PM
undefined12]التيار التجديدي في الإخوان المسلمين
[الكاتب: جمال سلطان]
( 1 )
على مدار العام الأخير كله , والحوارات لم تنقطع مع شخصيات مختلفة من أبناء الحركة الإسلامية المصرية , ينتمون إلى الإخوان المسلمين , بعضهم غادر بالفعل لما أحيط به وعجز عن الإصلاح فأعلن الخروج , وبعضهم ما يزال يحاول الإصلاح من الداخل ولم ينقطع به حبل الأمل مؤكدين حدبهم على الجماعة وحرصهم على الاحتفاظ بالنفس الطويل في مسيرة الإصلاح , حوارات شخصية مباشرة وحوارات عبر الإنترنت وحوارات عبر الهاتف , كلها تدور في نطاق ما يمكن أن نسميه «النقد الذاتي» للحركة الإسلامية , وهو - في شموله واتساع دائرته - يمكن وصفه بالمراجعات الحقيقية التي تدور الآن في التيار الجديد من الإخوان المسلمين , وهو تيار بدأ أبناؤه يطلقون على فكرته - مؤخراً - تعبير «التيار التجديدي في الإخوان المسلمين» , وأشهد بأن القسم الأكبر من هؤلاء الرجال يتعاملون بأدب كبير وحرص أكبر على ما ينتسبون إليه , ولم أشك لحظة في أنهم يبغون الإصلاح ما استطاعوا , ولا يقصدون أبداً فكرة شق الصف , ولا يراودهم هاجس الخروج من الجماعة , بل كان كثير منهم يحرص في مقدمة حواره وفي منتهاه على أن يؤكد على هذا المعنى قطعاً لأي ظنون لدى السامع أو الطرف الآخر , والمشكلة الأساسية التي تواجه هذا التيار التجديدي في الإخوان المسلمين هو أنه يجد صداً كبيراً من قادة الحركة , ومراوغة أكبر من «الجيل الوسيط» فيها , وهروباً من الجواب على الأسئلة المحورية , وهو أمر لا يحل المشكلة وإن كان يرحل «عقدة» الأزمة لبعض الوقت , إلا أن الخطير في عمليات «ترحيل» العقدة , هي أنها تراكم من الهموم والهواجس , وتصعب من الوصول إلى «نقطة التلاقي» , ناهيك عن كونها تعزز تصور الجيل الجديد من أن الأمر مجرد «جهد مهدر» وأفق مسدود , ودائرة مفرغة , لا تتعدى طموحاتها مجرد إثبات الوجود لا أكثر .
( 2 )
مسألتان تبرزان في سياق هذه المراجعات التي يقودها «التيار التجديدي» تحتاج - فيما أظن - إلى بعض البيان والتوضيح , المسألة الأولى هي الحساسية المفرطة التي أبداها بعض قادة الجماعة - جماعة الإخوان - مؤخراً تجاه فكرة «المراجعات» والغضب الشديد كلما جاء ذكرها في حوار أو حديث , ولاحظ القراء ذلك في حوارات فضيلة المرشد والسيد المستشار مأمون الهضيبي, وحتى في تصريحات وحوارات بعض رموز «الجيل الوسيط في الحركة - جيل السبعينيات» , وكان الجميع يحرص على التأكيد على أن موضوع «المراجعات» خاص «بالجماعة الإسلامية» التي انتهجت العنف سبيلاً للتغيير في المجتمع , وأما نحن - الإخوان - فلم ننتهج العنف , ففي أي شيء نجري مراجعات , ثم إن هذه المراجعات - حسب اتهامات المرشد - عمل «أمني» ونحن لا نشارك فيه , والحقيقة أن هذه حساسية لا مبرر لها أبداً , كما أنه منطق بغير أساس , وذلك أن فكرة «المراجعات» في الحركات السياسية والدينية والاجتماعية , هي فكرة مطردة , ووجودها حية , هو شرط حياة الحركة أيا كان محتواها , والحركة أو الجماعة التي تتوقف عن المراجعة وإعادة التقويم في مسيرتها ومنهجها هي حركة جامدة فاقدة للأهلية الاجتماعية ومنعدمة الأفق, مهما تضخم جسدها أو إمكانياتها ؛ بل إن الجسد والإمكانيات تتحولان إلى عبء عليها وليس قوة دفع , إنه لمخطئ - بلا ريب - من يتصور أن المراجعة في الحركة الإسلامية تحديداً تتعلق بالعنف أو الغلو أو نحو ذلك , المراجعات هي مطلب شرعي وإنساني ومنطقي , لتقويم المسيرة , وإعادة بلورة الأهداف , وإعادة النظر في المناهج ودقتها , وإعادة تقييم الوسائل والآليات وجدواها , وكذلك إعادة النظر في «كفاءة» القائمين على العمل من عدمه , إذ أنه لا يكفي أبداً أن تكون «الثقة» والنزاهة الشخصية متوفرة لكي يكون الشخص «كفؤاً» للعمل , وإنما للكفاءة شروط فنية وإنسانية وشرعية , بدونها يصبح الشخص عبئاً على الحركة , بل وربما كارثة عليها وعلى أبنائها , ولا يغفر له , ولا لمن ولاه أبداً , توافر الثقة , أو النية الطيبة , أو الثبات في الملمات .
( 3 )
المسألة الأخرى , تتعلق بالحذر والتحذير الدائم من عمليات «النقد الذاتي» والحركة تتعرض لمظالم ومطاردات ومحن ونحو ذلك , وأن النقد هنا يزيد الجراح ويؤسس للفتنة , وهذا الكلام - مع إحسان الظن - هو مجرد شماعة نعلق عليها عجزنا عن تقويم أنفسنا وممارسة النقد الذاتي , ومجرد «مخدر» نقدمه للأجيال الجديدة التي ترى بأعينها السياسات الخاطئة والآفاق المسدودة والجهود المهدرة والولاءات المؤسسة على عواطف ليست بريئة , وإلا فحدثونا - أيها الأحباب - في أي وقت من الأوقات منذ نشأة الحركة , وهذه طامة في الإخوان وفي غيرهم , وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً , حدثوني عن مراجعات جادة حدثت , أو ممارسات للنقد الذاتي جريئة , سواء في الأوقات التي عاشت فيها الجماعة «دفء» العلاقة مع السلطة , أو التي عاشت فيها مرحلة صدام وخلاف , إن الممارسات النقدية الوحيدة التي قرأناها هي لأشخاص خرجوا أو أخرجوا , والمدهش أن الكثيرين ممن تعرضوا «من الخارج» للحوار مع الإخوان يقال لهم , ادخل وأصلح من الداخل , فإذا ما دخل وجد نفسه محاصراً بألف عين وأذن ملؤها الشك في أي نقد أو ملاحظة , بل إن من يحاول الإصلاح من الداخل هو الذي يجد نفسه محاطاً بالملاحظات وعليه علامات استفهام , وربما عزل وارتياب حتى يستسلم تماماً أو يخرج من حيث أتى , ثم يستمر العمل على ما كان عليه , كأن لم يمر بنا نهار ولا شمس ولا محنة , ولماذا نذهب بعيداً وبين يدينا كلام الدكتور محمد السيد حبيب الذي كتب مقالاً بعنوان «في مدرسة الإخوان تربينا» , يقول فيه بالحرف الواحد في معرض تجليته لمميزات الإخوان المسلمين : «ولا يوجد لدى المدرسة ما يدعيه البعض من صراع بين حرس قديم وإخوان جدد , فالكل منصهر في بوتقة واحدة .... وإذا كان هناك من يريد الخروج عن إطار الفكرة وقواعد المنهج فله ما يريد ولكن بعيداً عن المدرسة» , تأمل ما يمكن أن نسميه «عنف العاطفة» , فالكل «منصهر في بوتقة واحدة» والمحصلة «العملية» لهذا الكلام هو أن الكل محمول على رأي واحد , ومن أراد أن «يعدل أو يعيد النظر في إطار الفكرة» فلا سبيل أمامه سوى أن يحمل أوجاعه وملاحظاته ويرحل «بعيداً عن المدرسة» غير مأسوف عليه , ثم تأمل النظر إلى «صراع الأجيال» هذه النظرة شديدة السلبية , رغم أنه حراك إنساني فطري , لاختلاف الأجيال والخبرات والظرف التاريخي والثقافي الذي نشأ فيه كل جيل , ولكن - أبداً - إن هذا «العار» لا يمكن أن يقع في الإخوان , وإنما الكل «منصهر في بوتقة جيل واحد» .
إن النقد الذاتي يقوى جسد الحركات الاجتماعية ولا يضعفه , ويمده بطاقات من الحيوية والتجدد تزيد في فعاليته , وينفي عنه الخبث والعجز وكل ما يمثل عبئاً وثقلاً وقيداً عن التطور والعطاء , والحركة الاجتماعية التي تخاف من التجدد والنقد الذاتي هي حركة غير جديرة بالبقاء أصلاً , أو أنها تكون مؤسسة على «تراث من الأخطاء والأوهام» تخشى أن يسقط من أول لحظة إذا فتحت النوافذ للحرية وضوء الشمس , ولا أظن أن «الإخوان المسلمين» كحركة تاريخية لها جذرها في النهضة العربية والإسلامية الحديثة يمكن أن تكون من هذا النوع القلق والمرتعد أمام الأفكار الشابة ودعوات المراجعة والنقد الذاتي .
( 4 )
من خلال الحوارات التي تمت , والقراءات لما عرض , يمكن أن نوجز - بما يناسب المساحة المحدودة هنا - أهم المحاور التي يطرحها «التيار التجديدي في الإخوان المسلمين» على بساط المراجعة المطلوبة والعاجلة .
والمحور الأول يتمثل في ما يمكن تسميته «بالغلو التنظيمي» والتطرف العاطفي في النظر إلى «الجماعة» وشخصيتها الاعتبارية في المحيط الاجتماعي والديني والسياسي , وهو تطرف لا تفلح في ستره العبارات التقليدية التي تتحدث عن «وسطية« الإخوان , وأنهم جماعة من المسلمين وليسوا جماعة المسلمين , إن الممارسات ومناهج التكوين والتربية تقوم صراحة على أن «الإخوان» مرادف كامل «للإسلام» , وكان من طريف الحوارات التي تمت في هذا المحور أن اختار أبناء «التيار التجديدي» المقال السابق للدكتور محمد السيد حبيب - من قيادات الجماعة - بعنوان «في مدرسة الإخوان تربينا» وأجروا عليه ما أسموه في رسالتهم - عملية كومبيوترية بحتة - أي أنهم استبدلوا فقط كلمة «الإسلام» مكان كلمة «الإخوان» في كل سياقات المقال , ووجدوا أن السياق منتظم تماماً بدون أي اختلال , ونظراً لطول المقال .. أختار منه مقتطفاً واحداً فقط - كنموذج لما أوردوه , يقول الدكتور حبيب في مقاله : (في مدرس-ة الإخ-وان يتعلم الإنس-ان ك-يف يتج-رد لفكرته النبيلة , فلا يجمع معها أفكار أخ-رى , ق-د تناقض أو ق-د لا تتفق معها ول-و في بعض الج-زئيات . وك-يف يفعل ذلك و فك-رته فيها م-ن الإح-اط-ة والش-مول والك-مال والتمام م-ا يع-وضه ع-ن النظ-ر إل-ى أي-ة فك-رة أخ-رى ؟ لذلك مطلوب م-ن الأخ أن يع-مل عل-ى أن تملك الفك-رة ع-ليه لبه وعقله ومشاعره , فيفكر ليل نهار كيف ي-دع-و إليها ؟ وك-يف يج-تذب الأنص-ار لقبولها والتعاط-ف معها والانخراط فيها والارتباط بها؟وكيف يزيل العقبات من طريقها ويعبد الطريق أمامها ؟ وك-يف يهيئ لها من أسباب النج-اح والفلاح ما يجعلها تصل إلي ه-دفها المنش-ود؟ ولا يغيب ع-ن ذه-ن الأخ أن ق-وته وع-زته في مدي ارتباطه بفكرته) انتهى الاقتباس .. , وعلى القارئ أن يضع كلمة «الإسلام» مكان كلمة «الإخوان» ثم ينظر , هل تغير شيء في المعنى , بل إن الوضع الجديد هو الأقرب إلى نصوص الشريعة وروحها كذلك «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له» , والمهم أن محصلة ما سبق - حسب نص رسالة هذا التيار - أن أسلوب التربية يعزز في عقل الشباب من رسوخ معادلة: نحن الإسلام والإسلام نحن !.
( 5 )
ولقد كان الغلو المتزايد في هذا المحور دافعاً لهذا التيار التجديدي إلى إرسال رسالة إلى فضيلة المرشد يسألونه بما معناه : هل أصبح التنظيم مقدماً على الإسلام أو بديلاً للانتماء له , ولكن الإجابة جاءت من الشيخ فيصل المولوي - فقيه الجماعة - , كما جاءت من الأستاذ فتحي يكن الذي استشعر الخطر الكبير من القلق المتزايد في هذه المسألة فكتب يقول في جوابه : (إن مجرد استهداف التنظيم بالعمل , هو لون من ألوان الشرك , والله تعالى أغنى الأغنياء عن الشرك , وهو سبحانه القائل {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ثم يضيف الشيخ منبهاً : (إننا مسلمون قبل أن نكون «إخوان مسلمين» وأننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين .. فالإسلام قبلنا وبعدنا , وبنا وبدوننا , وإن نتولى يستبدل الله قوماً غيرنا , ولن نضره شيئاً , وسيجزي الله الشاكرين , .. في ضوء كل ذلك - الكلام ما زال ليكن - يكون المطلوب دائماً وأبداً : تجريد العمل للإسلام من كل لوثة وصولية , أو غرض فردي أو جماعي أو تنظيمي , انسجاماً مع خلوص العبودية لله تعالى الذي أكدته وأكدت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى {قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}[الأنعام] ) .
يؤكد الشيخ في جوابه على المعنى من زاوية أخرى بقوله : (إن دين الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, أما التنظيم وأهله والعاملون فيه فليسوا بمعصومين عن الخطأ والزلل, وجميعهم يؤخذ منه ويرد عليه , وهؤلاء كلهم يعرفون بالدين ولا يعرف الدين بهم) انتهى الاقتباس من رسالته .. , وليتأمل القارئ شدة الرسالة وصرامتها , التي تبين مدى قلق صاحبها من الظاهرة , والحقيقة أن هذه الظاهرة الخطرة لها تجليات عملية وسلوكية خطيرة , وخطورتها تأتي من اعتياد أبناء الجماعة عليها بصورة تحيلها إلى «أصل نمطي» لا يلفت انتباههم , ينتهي إلى تأصيل مسألة تقديم مصلحة التنظيم على مصلحة الإسلام أو مصلحة الأمة , كأن يتم تجاهل المشاركة في أعمال مثمرة لخير الدعوة الإسلامية طالما أنه لن يعود منها فائدة تنظيمية مباشرة على الجماعة , أو حتى تعطيل بعض الأعمال الناجحة أو وضع العثرات في طريقها طالما أنها لن تخرج من الجماعة أو تضيف إليها , وإن كانت ستضيف إلى النشاط الإسلامي العام , أو محاربة شخصية ناجحة وذات كفاءة عالية في موقع ما والتآمر عليها - وهي من غير الإخوان - لإحلال شخصية أقل كفاءة منها في الموقع ذاته لأنها من الإخوان رغم أن المحصلة ضرر يقع على «القيمة الإسلامية» في العمل المذكور, أي أنه لا حرج من إضعاف العمل الإسلامي لأن المهم هو «تقوية الإخوان» كما أن هناك سلوكيات موجعة للقلب وشديدة القسوة في تعاملات الجماعة مع من اختلف معها أو خرج عنها والتي تصل إلى حد فرض الحصار الإنساني وقطع الرحم التي أمر الله بها أن توصل وحرب التجويع بما يمس الأطفال والذرية وهي شواهد يطول ذكرها , بالمقابل هناك عمليات «التدليل» الزائدة عن الحد للموالين مهما كانت أخطاؤهم تسد عين الشمس , ولعل ما حدث مع السيد «محفوظ نحناح» في الجزائر كان طافحاً, إذ بينما يعلن العسكر انقلابهم على الانتخابات ويشنون الحرب الضروس على الإسلاميين - من غير الإخوان - إذا بنحناح يتحالف مع العسكر في حربهم غير الطاهرة ضد من اختارهم الشعب , دع عنك أن يكونوا إسلاميين , وبينما كل الأحرار في العالم يضجون من انتهازية نحناح , كانت صحف الإخوان ومجلاتهم تتصدر أغلفتها صور نحناح وتصريحاته , بكل اعتزاز وفخر ومباهاة , كفاتح كبير أو صانع نهضة , مع أن أحداً غيره لو فعل ما فعل , وكان الضحية هم الإخوان - وليسوا الإنقاذ - لحولوه إلى شيطان رجيم , وأقاموا له نصباً ترمى عليه الجمرات كل صباح .
( 6 )
المحور الثاني من المحاور التي يطرحها التيار التجديدي في الإخوان المسلمين , يتمثل في انعدام قنوات الحوار الجاد داخل الجماعة , وإفراغ الساحة الداخلية لمن يقدمون الولاء العاطفي الساذج, الأمر الذي أتاح الفرصة لنماذج ليست بعيدة عن الانتهازية و«الفساد» لكي يكون لها موقع القربى من «مراكز القرار» , كما أن هؤلاء المتزلفين يسدون المنافذ على أي جهد نقدي أو ممارسة حق الاختلاف , بعضهم تحدث بوضوح شديد عن أن التغيير أو الإصلاح في الداخل هو «مستحيل» هكذا باللفظ الصريح , وبعضهم تحدث عن «عسكرة الجماعة» لضمان انعدام أية فرصة للاختلاف , بحيث لا يكون هناك سوى أمر وطاعة , ولا ثالث بينهما , وحسب نص أحدهم يقول : (لماذا عسكرة الجماعة بهذا الشكل الغير مبرر à فالمسئوليات الحزبية عندنا هي قيادة وجنود àوالأعمال الروحية الشهرية كتائب àوالمخيمات .. معسكرات àومفاهيم تركز على الطاعة والثقة àفهل الأمر بحاجة لهذه العسكرة ونحن في القرن الواحد والعشرين؟! ..كما أن الأجواء ليست مواجهة مع استعمار داخلي والظروف لا تسمح بتوظيف هذه المفاهيم و الأشكال للساحة الفلسطينية à. إذن لماذا عسكرة الجماعة بهذا الشكل ؟ فلسنا مليشيات شبه عسكرية والظرف المحلي و الإقليمي والعالمي لم يعد يسمح بمثل هذه العاطفيات التي لن ينبني عليها عمل سوى قمع متزايد ومواجهات داخلية واستغراق في خصومات تاريخية لا طائل من ورائها ولم نعد قادرين على تحمل كلفتها الباهظة) انتهى الاقتباس .
يتصل بهذا المحور أيضاً محور مهم يلخصه السؤال : لماذا تتحول الجماعة إلى عامل طرد مستمر للكفاءات الفكرية النادرة , والطاقات المبدعة , حتى إنه أصبح عجزاً لافتاً للانتباه ؟! , فرغم السيولة الكبيرة في تجهيز وإعداد الكفاءات المهنية والنقابية بصورة لافتة , تعجز الجماعة عن إيجاد قاعدة موازية من أهل الفكر والعطاء الثقافي المتميز والمبدع ؛ بل إن القاعدة الآن أصبحت شبه مسلمة , أن أية كفاءة فكرية تنبغ فإنه لا مكان لها داخل الجماعة , وهي مشروع للخروج حتماً , والمسألة تكون مسألة وقت , ولا داعي لتعداد الأسماء والظروف والملابسات , وقد ترتب على هذه السلبية ظاهرة ملفتة , وذلك أن الندوات ذات الطابع الفكري والثقافي العام التي كانت الجماعة تعقدها في النقابات وغيرها , كانت تضطر لدعوة مفكرين مستقلين أو من تيارات أخرى لكي يسدوا «العجز» , وينعدم وجود «المفكر» و«المبدع» من الإخوان في هذه النشاطات , ويرى أصحاب التيار التجديدي أن السبب في خروج هذه الظاهرة هو عدم وجود آلية مؤسسية واضحة لإدارة الحوار والخلاف داخل صفوف الجماعة , ونمط التربية لا يقوم على الحوار والشورى , وإنما يقوم على السمع والطاعة واستشفاف ما يرمي إليه القادة التاريخيون والتسابق إلى ما يشيرون إليه أو يلمحون , ولما كانت طبيعة الفكر والإبداع أن يعيش في أجواء من الحيوية العالية والحرية المنعشة للعقل والوجدان , والجرأة المؤهلة للريادة والتماس مع الآفاق البعيدة , فإن أصحاب هذه النزعات ليس أمامهم من سبيل سوى أحد وجهين : إما أن يطووا الجوانح على الألم وتنطفئ جذوة التميز والإبداع والجرأة ويتحولوا إلى «آلة» أو ترس فيها, وإما أن يحمل الواحد منهم طموحه وجسارته وحيويته ويرحل غير مأسوف عليه - كما أشرنا من قبل .
ويأخذ هذا التيار على قادة الجماعة الحديث المتكرر عن الحفاظ على «الثوابت» وأن الاختلاف إنما يكون في «المتغيرات» , وهو اقتباس جميل ولكنه غير دقيق في هذه الحالة , لأن هذا يصلح في الحديث عن «الإسلام» , أما عن «الإخوان» - أو أية جماعة أخرى - فإن فكرة «الجماعة» من أساسها هي من المتغيرات وليست من ثوابت الدين , وهي اجتهاد له ما لاجتهادات البشر , فكيف نحولها بمثل هذه البساطة إلى «كيان مقدس» لا يمس , ثم ما هي المتغيرات داخل الجماعة , وما هي الثوابت , وما هي القدسية التي جعلت لهذه «الثوابت» رسوخها وحرمتها , ولماذا تصبح عصية على الحوار الجاد لعل الزمن تجاوزها , أو لعل التجربة أثبتت خطأها , أو لعل الأجيال الجديدة تجد آلية جديدة أفضل منها لخدمة الإسلام والمسلمين ؟؟ هذه كلها تساؤلات مشروعة , وشواهد على اضطراب حقيقي في بنية العمل يحتاج إلى مراجعة جادة وعاجلة , وليس إلى القلق والخوف وسد النوافذ على ضوء الشمس الجديد .
( 7 )
المحور الثالث من محاور المراجعات المطروحة من التيار التجديدي في الإخوان المسلمين يتعلق بوضعية العلاقة مع السلطة والحكومات , ويرون أن التاريخ شاهد على اضطراب كبير في هذه العلاقة وعدم وضوح رؤية أو منهج , فنبتعد عندما يقتربون ونقترب عندما يبتعدون , ثم إن هناك نوعاً من استعذاب الكوارث - إن صح التعبير - مهما حاولنا إسباغ أثواب شرعية على «الأخطاء» التي أدت إليها , من مثل الحديث عن المحنة والابتلاء وغيرها , صحيح أن المسلم مطالب بالصبر على البلاء إذا ما حدث , ولكن جيشاً هزم في موقعة , وهذا بلاء , لا يعني أن يتم تبرئة قادته من المحاسبة على الأسباب التي أدت إلى هذه الكارثة , كما أن اتهام الطرف الآخر بصفة دائمة لا يمكن أن يكون مبرراً لتبرئة أنفسنا من الأخطاء , وهنا ينعدم وجود أي تقويم موضوعي لعلاقة الإخوان مع الحكومات المختلفة , منذ ما قبل ثورة يوليو وإلى الآن , إن هناك أسئلة من نوع : هل كانت الصدامات حتمية ؟ هل كان من الممكن تلافيها أو تلافي بعضها ؟ هل كان هناك سوء تقدير من قبل القيادة للأوضاع المحلية والدولية ؟ , إن الحركة قدمت تضحيات وحتى شهداء , هذا صحيح , وأجرهم عند ربهم - يرحمهم الله جميعاً - , ولكن هذه التضحيات التي دفعها أناس من أعمارهم وحرياتهم وعذابات أبنائهم وأهليهم , هل تمت مراجعة السياسات والمواقف والأعمال التي أنتجتها ؟ , ومن وجه إليها ؟ , إن التدثر بالسرية في هذا المقام لا يغني شيئاً , لأن الملفات بكاملها عند الطرف الآخر , وربما أكثر تفصيلاً مما هو عند «قادة» في الجماعة , فهل تمت المراجعة ؟ , بل السؤال الأدق : هل يمكن أن تتم مراجعة حقيقية جادة في هذا الملف ؟ , ويندرج في هذا السياق تساؤلات عن التجارب التي تمت مع قوى سياسية من غير السلطة , ولماذا انتهت معظمها إن لم نقل كلها إلى كوارث , ولماذا أورثت الحركة عداءات ومرارات كبيرة مع القوى السياسية المختلفة , هل كان هذا لمجرد سوء ظن وكراهية من التيارات الأخرى؟, أم أن الأمر - أيضاً - يتعلق بسياسات ومواقف وتصريحات متراكمة من جانب الجماعة وقادتها انتهت إلى هذه الكوارث ؟ , وهل يمكن أن تراجع هذه الملفات ؟ , وهل يمكن أن نعرف الأسباب الحقيقية التي أدت إليها ؟ , ومن كان وراءها ؟ , وهل يمكن محاسبة أولئك الأشخاص؟, ولماذا كانت الحروب الضروس التي خاضتها الجماعة بدون طائل سوى تشويه موقفها وحصد المزيد من الكراهية من الآخرين , مثلما ما حدث في الموقف من تجربة حزب الوسط , ومن الذي حولها إلى «حرب» مع هؤلاء الشباب الذين رأوا أن يخدموا الإسلام وفق آلية بديلة أو مختلفة , إن وفقوا فيها فقد أضافوا للإسلام قوة , وإن لم يوفقوا فلا ضرر من وراء ذلك بل مكاسب سياسية وإعلامية لا تخفى , لماذا تحملت الجماعة المشاق والمكاره لتقوم بالوقوف أمام المحاكم لكي تتبرأ منهم وتقدم من الأوراق والمستندات ما يعزز موقف الحكومة من رفض الحزب الجديد , وتسحب «ملفات حيوية» من تحت أيديهم لكي تسقط تجربتهم وينكسروا أمام الرفض الحكومي المتعنت , فيما كان كل هذا «الجهاد» ؟ , وهل تم حصر الآثار السلبية الخطيرة - أخلاقياً وسياسياً وإعلامياً - التي أصابت الجماعة من جراء مثل هذا الموقف , وهل تمت مراجعة جادة للموقف برمته , وهل تمت محاسبة من تولى الملف ؟
( 8 )
في مراجعات التيار التجديدي ملفات أخرى متعددة , تتعلق بآلية اختيار القيادة , ومشروعية البيعة , ومصداقيتها , وكذلك مأساة ما أطلق عليه بعض الإخوان «ظاهرة الفساد المالي والإداري والأخلاقي» عند بعض المقربين من القيادات الوسيطة , والذي تجلى - بالمستندات - في نقابتي المهندسين والمحامين , مع الإصرار على فرض النماذج المتهمة به , أو المتلبسة به , في مواقعها القيادية والتمسك بهم لأنهم «نشطون في حركة التجنيد» - مرة أخرى مصلحة التنظيم وليس مصلحة الإسلام وقيمه - , وغير ذلك من مواقف تفصيلية في قضايا وهموم الجماعة والأمة , يصعب أن نستوعبها كلها في هذه العجالة , وإنما حسبنا - حسب وعدنا لهم - أن نعرض بأمانة للمحاور الأساسية لآرائهم التي طرحوها , وأن نبلور وجهة نظرهم , عسى أن تبلغ إلى قادة الحركة وأهل الرأي والحكمة هناك , لعل الله يوفق الجميع إلى السداد والرشاد , ويبقى الحوار موصولاً من الأطراف جميعها , مع حرصنا المؤكد على ألا نكون طرفاً في أي خلاف أو اختلاف داخلي في أي عمل إسلامي , وإنما نحن «منبر» أمين لعرض الكلمة الطيبة , والفكرة البناءة , والرأي الأمين , وكل ما يضيف إلى وعي الأجيال الجديدة جديداً , مع تأكيد التزامنا بالواجب الشرعي الأصيل : النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم .
والله الهادي إلى سواء السبيل
[مجلة العصر/18/10/2002]
[/color]
[الكاتب: جمال سلطان]
( 1 )
على مدار العام الأخير كله , والحوارات لم تنقطع مع شخصيات مختلفة من أبناء الحركة الإسلامية المصرية , ينتمون إلى الإخوان المسلمين , بعضهم غادر بالفعل لما أحيط به وعجز عن الإصلاح فأعلن الخروج , وبعضهم ما يزال يحاول الإصلاح من الداخل ولم ينقطع به حبل الأمل مؤكدين حدبهم على الجماعة وحرصهم على الاحتفاظ بالنفس الطويل في مسيرة الإصلاح , حوارات شخصية مباشرة وحوارات عبر الإنترنت وحوارات عبر الهاتف , كلها تدور في نطاق ما يمكن أن نسميه «النقد الذاتي» للحركة الإسلامية , وهو - في شموله واتساع دائرته - يمكن وصفه بالمراجعات الحقيقية التي تدور الآن في التيار الجديد من الإخوان المسلمين , وهو تيار بدأ أبناؤه يطلقون على فكرته - مؤخراً - تعبير «التيار التجديدي في الإخوان المسلمين» , وأشهد بأن القسم الأكبر من هؤلاء الرجال يتعاملون بأدب كبير وحرص أكبر على ما ينتسبون إليه , ولم أشك لحظة في أنهم يبغون الإصلاح ما استطاعوا , ولا يقصدون أبداً فكرة شق الصف , ولا يراودهم هاجس الخروج من الجماعة , بل كان كثير منهم يحرص في مقدمة حواره وفي منتهاه على أن يؤكد على هذا المعنى قطعاً لأي ظنون لدى السامع أو الطرف الآخر , والمشكلة الأساسية التي تواجه هذا التيار التجديدي في الإخوان المسلمين هو أنه يجد صداً كبيراً من قادة الحركة , ومراوغة أكبر من «الجيل الوسيط» فيها , وهروباً من الجواب على الأسئلة المحورية , وهو أمر لا يحل المشكلة وإن كان يرحل «عقدة» الأزمة لبعض الوقت , إلا أن الخطير في عمليات «ترحيل» العقدة , هي أنها تراكم من الهموم والهواجس , وتصعب من الوصول إلى «نقطة التلاقي» , ناهيك عن كونها تعزز تصور الجيل الجديد من أن الأمر مجرد «جهد مهدر» وأفق مسدود , ودائرة مفرغة , لا تتعدى طموحاتها مجرد إثبات الوجود لا أكثر .
( 2 )
مسألتان تبرزان في سياق هذه المراجعات التي يقودها «التيار التجديدي» تحتاج - فيما أظن - إلى بعض البيان والتوضيح , المسألة الأولى هي الحساسية المفرطة التي أبداها بعض قادة الجماعة - جماعة الإخوان - مؤخراً تجاه فكرة «المراجعات» والغضب الشديد كلما جاء ذكرها في حوار أو حديث , ولاحظ القراء ذلك في حوارات فضيلة المرشد والسيد المستشار مأمون الهضيبي, وحتى في تصريحات وحوارات بعض رموز «الجيل الوسيط في الحركة - جيل السبعينيات» , وكان الجميع يحرص على التأكيد على أن موضوع «المراجعات» خاص «بالجماعة الإسلامية» التي انتهجت العنف سبيلاً للتغيير في المجتمع , وأما نحن - الإخوان - فلم ننتهج العنف , ففي أي شيء نجري مراجعات , ثم إن هذه المراجعات - حسب اتهامات المرشد - عمل «أمني» ونحن لا نشارك فيه , والحقيقة أن هذه حساسية لا مبرر لها أبداً , كما أنه منطق بغير أساس , وذلك أن فكرة «المراجعات» في الحركات السياسية والدينية والاجتماعية , هي فكرة مطردة , ووجودها حية , هو شرط حياة الحركة أيا كان محتواها , والحركة أو الجماعة التي تتوقف عن المراجعة وإعادة التقويم في مسيرتها ومنهجها هي حركة جامدة فاقدة للأهلية الاجتماعية ومنعدمة الأفق, مهما تضخم جسدها أو إمكانياتها ؛ بل إن الجسد والإمكانيات تتحولان إلى عبء عليها وليس قوة دفع , إنه لمخطئ - بلا ريب - من يتصور أن المراجعة في الحركة الإسلامية تحديداً تتعلق بالعنف أو الغلو أو نحو ذلك , المراجعات هي مطلب شرعي وإنساني ومنطقي , لتقويم المسيرة , وإعادة بلورة الأهداف , وإعادة النظر في المناهج ودقتها , وإعادة تقييم الوسائل والآليات وجدواها , وكذلك إعادة النظر في «كفاءة» القائمين على العمل من عدمه , إذ أنه لا يكفي أبداً أن تكون «الثقة» والنزاهة الشخصية متوفرة لكي يكون الشخص «كفؤاً» للعمل , وإنما للكفاءة شروط فنية وإنسانية وشرعية , بدونها يصبح الشخص عبئاً على الحركة , بل وربما كارثة عليها وعلى أبنائها , ولا يغفر له , ولا لمن ولاه أبداً , توافر الثقة , أو النية الطيبة , أو الثبات في الملمات .
( 3 )
المسألة الأخرى , تتعلق بالحذر والتحذير الدائم من عمليات «النقد الذاتي» والحركة تتعرض لمظالم ومطاردات ومحن ونحو ذلك , وأن النقد هنا يزيد الجراح ويؤسس للفتنة , وهذا الكلام - مع إحسان الظن - هو مجرد شماعة نعلق عليها عجزنا عن تقويم أنفسنا وممارسة النقد الذاتي , ومجرد «مخدر» نقدمه للأجيال الجديدة التي ترى بأعينها السياسات الخاطئة والآفاق المسدودة والجهود المهدرة والولاءات المؤسسة على عواطف ليست بريئة , وإلا فحدثونا - أيها الأحباب - في أي وقت من الأوقات منذ نشأة الحركة , وهذه طامة في الإخوان وفي غيرهم , وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً , حدثوني عن مراجعات جادة حدثت , أو ممارسات للنقد الذاتي جريئة , سواء في الأوقات التي عاشت فيها الجماعة «دفء» العلاقة مع السلطة , أو التي عاشت فيها مرحلة صدام وخلاف , إن الممارسات النقدية الوحيدة التي قرأناها هي لأشخاص خرجوا أو أخرجوا , والمدهش أن الكثيرين ممن تعرضوا «من الخارج» للحوار مع الإخوان يقال لهم , ادخل وأصلح من الداخل , فإذا ما دخل وجد نفسه محاصراً بألف عين وأذن ملؤها الشك في أي نقد أو ملاحظة , بل إن من يحاول الإصلاح من الداخل هو الذي يجد نفسه محاطاً بالملاحظات وعليه علامات استفهام , وربما عزل وارتياب حتى يستسلم تماماً أو يخرج من حيث أتى , ثم يستمر العمل على ما كان عليه , كأن لم يمر بنا نهار ولا شمس ولا محنة , ولماذا نذهب بعيداً وبين يدينا كلام الدكتور محمد السيد حبيب الذي كتب مقالاً بعنوان «في مدرسة الإخوان تربينا» , يقول فيه بالحرف الواحد في معرض تجليته لمميزات الإخوان المسلمين : «ولا يوجد لدى المدرسة ما يدعيه البعض من صراع بين حرس قديم وإخوان جدد , فالكل منصهر في بوتقة واحدة .... وإذا كان هناك من يريد الخروج عن إطار الفكرة وقواعد المنهج فله ما يريد ولكن بعيداً عن المدرسة» , تأمل ما يمكن أن نسميه «عنف العاطفة» , فالكل «منصهر في بوتقة واحدة» والمحصلة «العملية» لهذا الكلام هو أن الكل محمول على رأي واحد , ومن أراد أن «يعدل أو يعيد النظر في إطار الفكرة» فلا سبيل أمامه سوى أن يحمل أوجاعه وملاحظاته ويرحل «بعيداً عن المدرسة» غير مأسوف عليه , ثم تأمل النظر إلى «صراع الأجيال» هذه النظرة شديدة السلبية , رغم أنه حراك إنساني فطري , لاختلاف الأجيال والخبرات والظرف التاريخي والثقافي الذي نشأ فيه كل جيل , ولكن - أبداً - إن هذا «العار» لا يمكن أن يقع في الإخوان , وإنما الكل «منصهر في بوتقة جيل واحد» .
إن النقد الذاتي يقوى جسد الحركات الاجتماعية ولا يضعفه , ويمده بطاقات من الحيوية والتجدد تزيد في فعاليته , وينفي عنه الخبث والعجز وكل ما يمثل عبئاً وثقلاً وقيداً عن التطور والعطاء , والحركة الاجتماعية التي تخاف من التجدد والنقد الذاتي هي حركة غير جديرة بالبقاء أصلاً , أو أنها تكون مؤسسة على «تراث من الأخطاء والأوهام» تخشى أن يسقط من أول لحظة إذا فتحت النوافذ للحرية وضوء الشمس , ولا أظن أن «الإخوان المسلمين» كحركة تاريخية لها جذرها في النهضة العربية والإسلامية الحديثة يمكن أن تكون من هذا النوع القلق والمرتعد أمام الأفكار الشابة ودعوات المراجعة والنقد الذاتي .
( 4 )
من خلال الحوارات التي تمت , والقراءات لما عرض , يمكن أن نوجز - بما يناسب المساحة المحدودة هنا - أهم المحاور التي يطرحها «التيار التجديدي في الإخوان المسلمين» على بساط المراجعة المطلوبة والعاجلة .
والمحور الأول يتمثل في ما يمكن تسميته «بالغلو التنظيمي» والتطرف العاطفي في النظر إلى «الجماعة» وشخصيتها الاعتبارية في المحيط الاجتماعي والديني والسياسي , وهو تطرف لا تفلح في ستره العبارات التقليدية التي تتحدث عن «وسطية« الإخوان , وأنهم جماعة من المسلمين وليسوا جماعة المسلمين , إن الممارسات ومناهج التكوين والتربية تقوم صراحة على أن «الإخوان» مرادف كامل «للإسلام» , وكان من طريف الحوارات التي تمت في هذا المحور أن اختار أبناء «التيار التجديدي» المقال السابق للدكتور محمد السيد حبيب - من قيادات الجماعة - بعنوان «في مدرسة الإخوان تربينا» وأجروا عليه ما أسموه في رسالتهم - عملية كومبيوترية بحتة - أي أنهم استبدلوا فقط كلمة «الإسلام» مكان كلمة «الإخوان» في كل سياقات المقال , ووجدوا أن السياق منتظم تماماً بدون أي اختلال , ونظراً لطول المقال .. أختار منه مقتطفاً واحداً فقط - كنموذج لما أوردوه , يقول الدكتور حبيب في مقاله : (في مدرس-ة الإخ-وان يتعلم الإنس-ان ك-يف يتج-رد لفكرته النبيلة , فلا يجمع معها أفكار أخ-رى , ق-د تناقض أو ق-د لا تتفق معها ول-و في بعض الج-زئيات . وك-يف يفعل ذلك و فك-رته فيها م-ن الإح-اط-ة والش-مول والك-مال والتمام م-ا يع-وضه ع-ن النظ-ر إل-ى أي-ة فك-رة أخ-رى ؟ لذلك مطلوب م-ن الأخ أن يع-مل عل-ى أن تملك الفك-رة ع-ليه لبه وعقله ومشاعره , فيفكر ليل نهار كيف ي-دع-و إليها ؟ وك-يف يج-تذب الأنص-ار لقبولها والتعاط-ف معها والانخراط فيها والارتباط بها؟وكيف يزيل العقبات من طريقها ويعبد الطريق أمامها ؟ وك-يف يهيئ لها من أسباب النج-اح والفلاح ما يجعلها تصل إلي ه-دفها المنش-ود؟ ولا يغيب ع-ن ذه-ن الأخ أن ق-وته وع-زته في مدي ارتباطه بفكرته) انتهى الاقتباس .. , وعلى القارئ أن يضع كلمة «الإسلام» مكان كلمة «الإخوان» ثم ينظر , هل تغير شيء في المعنى , بل إن الوضع الجديد هو الأقرب إلى نصوص الشريعة وروحها كذلك «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له» , والمهم أن محصلة ما سبق - حسب نص رسالة هذا التيار - أن أسلوب التربية يعزز في عقل الشباب من رسوخ معادلة: نحن الإسلام والإسلام نحن !.
( 5 )
ولقد كان الغلو المتزايد في هذا المحور دافعاً لهذا التيار التجديدي إلى إرسال رسالة إلى فضيلة المرشد يسألونه بما معناه : هل أصبح التنظيم مقدماً على الإسلام أو بديلاً للانتماء له , ولكن الإجابة جاءت من الشيخ فيصل المولوي - فقيه الجماعة - , كما جاءت من الأستاذ فتحي يكن الذي استشعر الخطر الكبير من القلق المتزايد في هذه المسألة فكتب يقول في جوابه : (إن مجرد استهداف التنظيم بالعمل , هو لون من ألوان الشرك , والله تعالى أغنى الأغنياء عن الشرك , وهو سبحانه القائل {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ثم يضيف الشيخ منبهاً : (إننا مسلمون قبل أن نكون «إخوان مسلمين» وأننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين .. فالإسلام قبلنا وبعدنا , وبنا وبدوننا , وإن نتولى يستبدل الله قوماً غيرنا , ولن نضره شيئاً , وسيجزي الله الشاكرين , .. في ضوء كل ذلك - الكلام ما زال ليكن - يكون المطلوب دائماً وأبداً : تجريد العمل للإسلام من كل لوثة وصولية , أو غرض فردي أو جماعي أو تنظيمي , انسجاماً مع خلوص العبودية لله تعالى الذي أكدته وأكدت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى {قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}[الأنعام] ) .
يؤكد الشيخ في جوابه على المعنى من زاوية أخرى بقوله : (إن دين الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, أما التنظيم وأهله والعاملون فيه فليسوا بمعصومين عن الخطأ والزلل, وجميعهم يؤخذ منه ويرد عليه , وهؤلاء كلهم يعرفون بالدين ولا يعرف الدين بهم) انتهى الاقتباس من رسالته .. , وليتأمل القارئ شدة الرسالة وصرامتها , التي تبين مدى قلق صاحبها من الظاهرة , والحقيقة أن هذه الظاهرة الخطرة لها تجليات عملية وسلوكية خطيرة , وخطورتها تأتي من اعتياد أبناء الجماعة عليها بصورة تحيلها إلى «أصل نمطي» لا يلفت انتباههم , ينتهي إلى تأصيل مسألة تقديم مصلحة التنظيم على مصلحة الإسلام أو مصلحة الأمة , كأن يتم تجاهل المشاركة في أعمال مثمرة لخير الدعوة الإسلامية طالما أنه لن يعود منها فائدة تنظيمية مباشرة على الجماعة , أو حتى تعطيل بعض الأعمال الناجحة أو وضع العثرات في طريقها طالما أنها لن تخرج من الجماعة أو تضيف إليها , وإن كانت ستضيف إلى النشاط الإسلامي العام , أو محاربة شخصية ناجحة وذات كفاءة عالية في موقع ما والتآمر عليها - وهي من غير الإخوان - لإحلال شخصية أقل كفاءة منها في الموقع ذاته لأنها من الإخوان رغم أن المحصلة ضرر يقع على «القيمة الإسلامية» في العمل المذكور, أي أنه لا حرج من إضعاف العمل الإسلامي لأن المهم هو «تقوية الإخوان» كما أن هناك سلوكيات موجعة للقلب وشديدة القسوة في تعاملات الجماعة مع من اختلف معها أو خرج عنها والتي تصل إلى حد فرض الحصار الإنساني وقطع الرحم التي أمر الله بها أن توصل وحرب التجويع بما يمس الأطفال والذرية وهي شواهد يطول ذكرها , بالمقابل هناك عمليات «التدليل» الزائدة عن الحد للموالين مهما كانت أخطاؤهم تسد عين الشمس , ولعل ما حدث مع السيد «محفوظ نحناح» في الجزائر كان طافحاً, إذ بينما يعلن العسكر انقلابهم على الانتخابات ويشنون الحرب الضروس على الإسلاميين - من غير الإخوان - إذا بنحناح يتحالف مع العسكر في حربهم غير الطاهرة ضد من اختارهم الشعب , دع عنك أن يكونوا إسلاميين , وبينما كل الأحرار في العالم يضجون من انتهازية نحناح , كانت صحف الإخوان ومجلاتهم تتصدر أغلفتها صور نحناح وتصريحاته , بكل اعتزاز وفخر ومباهاة , كفاتح كبير أو صانع نهضة , مع أن أحداً غيره لو فعل ما فعل , وكان الضحية هم الإخوان - وليسوا الإنقاذ - لحولوه إلى شيطان رجيم , وأقاموا له نصباً ترمى عليه الجمرات كل صباح .
( 6 )
المحور الثاني من المحاور التي يطرحها التيار التجديدي في الإخوان المسلمين , يتمثل في انعدام قنوات الحوار الجاد داخل الجماعة , وإفراغ الساحة الداخلية لمن يقدمون الولاء العاطفي الساذج, الأمر الذي أتاح الفرصة لنماذج ليست بعيدة عن الانتهازية و«الفساد» لكي يكون لها موقع القربى من «مراكز القرار» , كما أن هؤلاء المتزلفين يسدون المنافذ على أي جهد نقدي أو ممارسة حق الاختلاف , بعضهم تحدث بوضوح شديد عن أن التغيير أو الإصلاح في الداخل هو «مستحيل» هكذا باللفظ الصريح , وبعضهم تحدث عن «عسكرة الجماعة» لضمان انعدام أية فرصة للاختلاف , بحيث لا يكون هناك سوى أمر وطاعة , ولا ثالث بينهما , وحسب نص أحدهم يقول : (لماذا عسكرة الجماعة بهذا الشكل الغير مبرر à فالمسئوليات الحزبية عندنا هي قيادة وجنود àوالأعمال الروحية الشهرية كتائب àوالمخيمات .. معسكرات àومفاهيم تركز على الطاعة والثقة àفهل الأمر بحاجة لهذه العسكرة ونحن في القرن الواحد والعشرين؟! ..كما أن الأجواء ليست مواجهة مع استعمار داخلي والظروف لا تسمح بتوظيف هذه المفاهيم و الأشكال للساحة الفلسطينية à. إذن لماذا عسكرة الجماعة بهذا الشكل ؟ فلسنا مليشيات شبه عسكرية والظرف المحلي و الإقليمي والعالمي لم يعد يسمح بمثل هذه العاطفيات التي لن ينبني عليها عمل سوى قمع متزايد ومواجهات داخلية واستغراق في خصومات تاريخية لا طائل من ورائها ولم نعد قادرين على تحمل كلفتها الباهظة) انتهى الاقتباس .
يتصل بهذا المحور أيضاً محور مهم يلخصه السؤال : لماذا تتحول الجماعة إلى عامل طرد مستمر للكفاءات الفكرية النادرة , والطاقات المبدعة , حتى إنه أصبح عجزاً لافتاً للانتباه ؟! , فرغم السيولة الكبيرة في تجهيز وإعداد الكفاءات المهنية والنقابية بصورة لافتة , تعجز الجماعة عن إيجاد قاعدة موازية من أهل الفكر والعطاء الثقافي المتميز والمبدع ؛ بل إن القاعدة الآن أصبحت شبه مسلمة , أن أية كفاءة فكرية تنبغ فإنه لا مكان لها داخل الجماعة , وهي مشروع للخروج حتماً , والمسألة تكون مسألة وقت , ولا داعي لتعداد الأسماء والظروف والملابسات , وقد ترتب على هذه السلبية ظاهرة ملفتة , وذلك أن الندوات ذات الطابع الفكري والثقافي العام التي كانت الجماعة تعقدها في النقابات وغيرها , كانت تضطر لدعوة مفكرين مستقلين أو من تيارات أخرى لكي يسدوا «العجز» , وينعدم وجود «المفكر» و«المبدع» من الإخوان في هذه النشاطات , ويرى أصحاب التيار التجديدي أن السبب في خروج هذه الظاهرة هو عدم وجود آلية مؤسسية واضحة لإدارة الحوار والخلاف داخل صفوف الجماعة , ونمط التربية لا يقوم على الحوار والشورى , وإنما يقوم على السمع والطاعة واستشفاف ما يرمي إليه القادة التاريخيون والتسابق إلى ما يشيرون إليه أو يلمحون , ولما كانت طبيعة الفكر والإبداع أن يعيش في أجواء من الحيوية العالية والحرية المنعشة للعقل والوجدان , والجرأة المؤهلة للريادة والتماس مع الآفاق البعيدة , فإن أصحاب هذه النزعات ليس أمامهم من سبيل سوى أحد وجهين : إما أن يطووا الجوانح على الألم وتنطفئ جذوة التميز والإبداع والجرأة ويتحولوا إلى «آلة» أو ترس فيها, وإما أن يحمل الواحد منهم طموحه وجسارته وحيويته ويرحل غير مأسوف عليه - كما أشرنا من قبل .
ويأخذ هذا التيار على قادة الجماعة الحديث المتكرر عن الحفاظ على «الثوابت» وأن الاختلاف إنما يكون في «المتغيرات» , وهو اقتباس جميل ولكنه غير دقيق في هذه الحالة , لأن هذا يصلح في الحديث عن «الإسلام» , أما عن «الإخوان» - أو أية جماعة أخرى - فإن فكرة «الجماعة» من أساسها هي من المتغيرات وليست من ثوابت الدين , وهي اجتهاد له ما لاجتهادات البشر , فكيف نحولها بمثل هذه البساطة إلى «كيان مقدس» لا يمس , ثم ما هي المتغيرات داخل الجماعة , وما هي الثوابت , وما هي القدسية التي جعلت لهذه «الثوابت» رسوخها وحرمتها , ولماذا تصبح عصية على الحوار الجاد لعل الزمن تجاوزها , أو لعل التجربة أثبتت خطأها , أو لعل الأجيال الجديدة تجد آلية جديدة أفضل منها لخدمة الإسلام والمسلمين ؟؟ هذه كلها تساؤلات مشروعة , وشواهد على اضطراب حقيقي في بنية العمل يحتاج إلى مراجعة جادة وعاجلة , وليس إلى القلق والخوف وسد النوافذ على ضوء الشمس الجديد .
( 7 )
المحور الثالث من محاور المراجعات المطروحة من التيار التجديدي في الإخوان المسلمين يتعلق بوضعية العلاقة مع السلطة والحكومات , ويرون أن التاريخ شاهد على اضطراب كبير في هذه العلاقة وعدم وضوح رؤية أو منهج , فنبتعد عندما يقتربون ونقترب عندما يبتعدون , ثم إن هناك نوعاً من استعذاب الكوارث - إن صح التعبير - مهما حاولنا إسباغ أثواب شرعية على «الأخطاء» التي أدت إليها , من مثل الحديث عن المحنة والابتلاء وغيرها , صحيح أن المسلم مطالب بالصبر على البلاء إذا ما حدث , ولكن جيشاً هزم في موقعة , وهذا بلاء , لا يعني أن يتم تبرئة قادته من المحاسبة على الأسباب التي أدت إلى هذه الكارثة , كما أن اتهام الطرف الآخر بصفة دائمة لا يمكن أن يكون مبرراً لتبرئة أنفسنا من الأخطاء , وهنا ينعدم وجود أي تقويم موضوعي لعلاقة الإخوان مع الحكومات المختلفة , منذ ما قبل ثورة يوليو وإلى الآن , إن هناك أسئلة من نوع : هل كانت الصدامات حتمية ؟ هل كان من الممكن تلافيها أو تلافي بعضها ؟ هل كان هناك سوء تقدير من قبل القيادة للأوضاع المحلية والدولية ؟ , إن الحركة قدمت تضحيات وحتى شهداء , هذا صحيح , وأجرهم عند ربهم - يرحمهم الله جميعاً - , ولكن هذه التضحيات التي دفعها أناس من أعمارهم وحرياتهم وعذابات أبنائهم وأهليهم , هل تمت مراجعة السياسات والمواقف والأعمال التي أنتجتها ؟ , ومن وجه إليها ؟ , إن التدثر بالسرية في هذا المقام لا يغني شيئاً , لأن الملفات بكاملها عند الطرف الآخر , وربما أكثر تفصيلاً مما هو عند «قادة» في الجماعة , فهل تمت المراجعة ؟ , بل السؤال الأدق : هل يمكن أن تتم مراجعة حقيقية جادة في هذا الملف ؟ , ويندرج في هذا السياق تساؤلات عن التجارب التي تمت مع قوى سياسية من غير السلطة , ولماذا انتهت معظمها إن لم نقل كلها إلى كوارث , ولماذا أورثت الحركة عداءات ومرارات كبيرة مع القوى السياسية المختلفة , هل كان هذا لمجرد سوء ظن وكراهية من التيارات الأخرى؟, أم أن الأمر - أيضاً - يتعلق بسياسات ومواقف وتصريحات متراكمة من جانب الجماعة وقادتها انتهت إلى هذه الكوارث ؟ , وهل يمكن أن تراجع هذه الملفات ؟ , وهل يمكن أن نعرف الأسباب الحقيقية التي أدت إليها ؟ , ومن كان وراءها ؟ , وهل يمكن محاسبة أولئك الأشخاص؟, ولماذا كانت الحروب الضروس التي خاضتها الجماعة بدون طائل سوى تشويه موقفها وحصد المزيد من الكراهية من الآخرين , مثلما ما حدث في الموقف من تجربة حزب الوسط , ومن الذي حولها إلى «حرب» مع هؤلاء الشباب الذين رأوا أن يخدموا الإسلام وفق آلية بديلة أو مختلفة , إن وفقوا فيها فقد أضافوا للإسلام قوة , وإن لم يوفقوا فلا ضرر من وراء ذلك بل مكاسب سياسية وإعلامية لا تخفى , لماذا تحملت الجماعة المشاق والمكاره لتقوم بالوقوف أمام المحاكم لكي تتبرأ منهم وتقدم من الأوراق والمستندات ما يعزز موقف الحكومة من رفض الحزب الجديد , وتسحب «ملفات حيوية» من تحت أيديهم لكي تسقط تجربتهم وينكسروا أمام الرفض الحكومي المتعنت , فيما كان كل هذا «الجهاد» ؟ , وهل تم حصر الآثار السلبية الخطيرة - أخلاقياً وسياسياً وإعلامياً - التي أصابت الجماعة من جراء مثل هذا الموقف , وهل تمت مراجعة جادة للموقف برمته , وهل تمت محاسبة من تولى الملف ؟
( 8 )
في مراجعات التيار التجديدي ملفات أخرى متعددة , تتعلق بآلية اختيار القيادة , ومشروعية البيعة , ومصداقيتها , وكذلك مأساة ما أطلق عليه بعض الإخوان «ظاهرة الفساد المالي والإداري والأخلاقي» عند بعض المقربين من القيادات الوسيطة , والذي تجلى - بالمستندات - في نقابتي المهندسين والمحامين , مع الإصرار على فرض النماذج المتهمة به , أو المتلبسة به , في مواقعها القيادية والتمسك بهم لأنهم «نشطون في حركة التجنيد» - مرة أخرى مصلحة التنظيم وليس مصلحة الإسلام وقيمه - , وغير ذلك من مواقف تفصيلية في قضايا وهموم الجماعة والأمة , يصعب أن نستوعبها كلها في هذه العجالة , وإنما حسبنا - حسب وعدنا لهم - أن نعرض بأمانة للمحاور الأساسية لآرائهم التي طرحوها , وأن نبلور وجهة نظرهم , عسى أن تبلغ إلى قادة الحركة وأهل الرأي والحكمة هناك , لعل الله يوفق الجميع إلى السداد والرشاد , ويبقى الحوار موصولاً من الأطراف جميعها , مع حرصنا المؤكد على ألا نكون طرفاً في أي خلاف أو اختلاف داخلي في أي عمل إسلامي , وإنما نحن «منبر» أمين لعرض الكلمة الطيبة , والفكرة البناءة , والرأي الأمين , وكل ما يضيف إلى وعي الأجيال الجديدة جديداً , مع تأكيد التزامنا بالواجب الشرعي الأصيل : النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم .
والله الهادي إلى سواء السبيل
[مجلة العصر/18/10/2002]
[/color]